عدن التي في الذاكرة .. ممر العطارين وحافة اليهود والزعفران
محمد عبد الوهاب الشيطاني
بعد أن سكتت مدافع الحرب العالمية الثانية أخذني والدي إلى عدن ، وكنت ما ابتدأته من تعليم بسيط عن الفقيه الضرير في قرية الظاهرة واصلته عند الفقيه الودود والمتسامح والبسيط عبد الباري الفتيح والد الشاعر الكبير محمد الفتيح في جامع أبان التاريخي في منطقة كريتر ، والذي بناه (الحكم بن أبان بن عثمان بن عفان) حاكم عدن، وأطلق عليه اسم والده. وكانت الغرفة التي نتعلم فيها تقع بالقرب من ضريح في المسجد، يقال أنه لبانيه ؛ ، وبعد معلامة مسجد أبان انتقلت إلى معلامة ثانية تقع بالقرب من السوق عند فقيه كان لقبه ( الأكسح) ، واكتسب لقبه من وضعه الصحي الصعب، فقد كان مشلولاً ومجذوماً ، لكنه كان أكثر قسوة من سلفه الفتيح ، إذ كانت خيزراناته الطويلة واللينة تلسع ظهورنا وأكفنا لأتفه سبب، لهذا كنا نحفظ سور القرآن مجودة بسرعة قياسية ،و كنا نعمل على خدمته بكل تفانٍ ومنها مثلاً كنا نتناوب في تشغيل مروحة قماشية تعمل بالخيوط كانت موضوعة فوق دكته الترابية في الأصياف القائضة.
كنت، قبل الذهاب إلى المعلامة، أنهض باكراً وأغسل وجهي من زير ماء ( وعاء اسطواني من الفخار) وأحمل زنبيلاً مصنوعاً من جريد النخيل بداخله وعاء معدني مغطى ، وأذهب إلى شارع الزعفران لشراء الروتي الساخن من فرن الأغبري المشهور بنصف عانة ( عملة نقدية معدنية كانت تستخدم للتداول في عدن) ، ثم أمرُّ على مطعم لبيع الفول وأشتري بعانة كاملة فول مطبوخ، ومن مفرش في السوق اشتري بربع عانة بيضة واحدة أضعها بجيبي وأعود للمحل ، فيقوم نعمان عبده ثابت العامل في المحل بتشغيل دافور جاز لصنع الشاهي ، وإعادة طهي البيضة في وعاء الفول ، بعدها يقوم بوضع ملعقة من السمن البلدي الذي نحتفظ به في كاتورة معدنية( وعاء معدني مغطى) ، أو ظرف جاف من القرع ( جِعنان) على الفول الساخن. ثم نتناول إفطارنا الأربعة ( أبي وأخي عبدالله والعامل نعمان وأنا).
كنا نشترى ماء الاغتسال والنظافة من وراد يأتي به على جاري جمل ببرميل خشبي من آبار الشيخ عثمان ، ونشتري الماء المقطَّر الحالي ( كوز بمبه) من وراد أخر يأتي به من معمل تقطير في صيرة ، ولهذا الفعل انتج الوعي الشعبي في عدن أغنية شعبية رائجة يقول مطلعها (بَرِّده ياكوز بمبه طفي الفانوس لصي اللمبه) لم تزل تقال في الأعراس ويرقص على ايقاع لحنها ، وكنا نشتري الماء المالح من أبار يديرها أشخاص لصالح البلدية ، ويستخدم هذا الماء في رش الشوارع الترابية أمام المحلات ، ويحمله عمال الآبار بقرب جلدية ، توضع على جنوبهم ولها فتحات عدة لخروج الماء بقطرات متوسطة أثناء ثنيها لرش الماء أمام المحلات لتبريدها ولمنع تطاير غبارها في مواسم الرياح .
بعد العودة من المعلامة ، قبل الظهر، كنت أقوم بأخذ عانة من نعمان بنصفها اشتري تنباك (تتن) سُرَّات من محل (مدي) في الزعفران، وبنصفها الأخر أشتري فحم من حطب السدر من دكان صغير في حافة حسين، والعودة بعدها للدكان للتِّ التمباك ( تحويل التتن إلى كسر صغيرة وعجنه بالماء الحالي)، وتبديل ماء المداعة ( استبدال ماء النارجيلة بماء طري) وإشعال الفحم في موقد ترابي ، ونخش البوري ونفخه لإزالة الشوائب العالقة بفتحاته وتفقد (القَفَشة) المعدنية ، وكل ذلك استعداداً للمقيل اليومي لوالدي.
وحين أسمع آذان الظهر كنت أنتظر في الممر خروج أطفال بسني بمعية شبان ورجال من بنجلة ( عمارة) عبد الملك أسعد الأغبري، التي كانت تقع بالقرب من محل عبد القادر علوان ، و خروج أطفال حضارم مع كبارهم من محلات باحميش وباحكيم وباعبيد في الزغطوط المجاور لممر العطارين ، ونذهب جميعنا للصلاة في المسجد، وبعد أن أعود سريعاً من المسجد أقوم بأخذ الجِعْنَان وأذهب إلى (مخبازة الصوفي) بالقرب من سوق البلدية لإحضار الغداء لأربعتنا ، وكان في الغالب فتة بالسمن ( فتة بالتمر أو الموز ) وإلى جانبها ،أحياناً ، صحن صانونة ( طبيخ مشكل من الخضروات) و روتي أو عطف ( خبز موفى أقرب للرشوش الآن).
عامل المحل نعمان قبل أن يعمل عند والدي في الدكان كان يعمل صبياً في واحدة من بيوت البهرة في الشارع الخلفي مثل كثيرين من صبيان يافع، والأغابرة وحين صار في المحل بدأ يتعلم اللغة الانجليزية ليرد على المراسلات وخلافه، وإن والدي قام بتزويجه إحدى خواتي لاحقاً، وكنا في بداية الأمر نبيع في الدكان الخيوط والإبر والفوط الإندونيسية والمقارم، وكان من وقت لأخر تصل بضاعة للحاج سعيد الشطفة صديق جدي في جيبوتي فيعطى والدي بعضها ليسترزق منها ، ومن تلك البضائع عطر كان رائج وقتها اسمه ” بنت السودان”
قبل وصول والدتي إلى عدن من قرية الظاهرة كنا نقوم باستئجار أربع قعائد شبط ( أسرَّة شعبية تصنع من جبال مفتولة من جريد النخل أو حبال النيلون القوية) ونبقى لوقت في تنظيفها من الكُتن( البق) بالماء الساخن قبل أن ننام عليها أمام المحل في ممر العطارين ، ويمر صباحاً المؤجر لأخذها مع الإيجار إلى محل خلفي ، قبل أن يعود بعد الظهر ومعه قعادة واحدة يضعها أمام المحل ليستخدمها والدي في مقيله، الذي كنت قد حضرت كل وسائل الرفاهية له ” المداعة والتنباك؛ أما قاته فكان هرري يأتي به شخصياً من السوق.
لم يكن لدكان والدي ، الذي كان يقع في ممر العطارين بالقرب من سوق البهرة والحدادين، حمَّام، وإنما فتحة صغيرة تستخدم لإراقة الماء فقط ، وحين كنا نحتاج لحمام من أجل التبرز والاغتسال ، كنا نذهب إلى حمامات عمومية في السيلة بالقرب من مكتب البريد الجديد.
جاءت أمي إلى عدن قبل حرب اليهود ، وإحراق حارتهم ومحلاتهم، التي كانت تقع بالقرب من الزعفران وحافة القاضي ، وتتوزع على أربعة شوارع مشهورة في قلب المدينة التاريخية ( الملك سليمان والملا والخبز وبانين ) وأتذكر من تلك الحادثة أني شاهدت كيف كان يربط بعض المحتجين والمتذمرين ،من احتلال اليهود لفلسطين وتقسيمها بقرار من هيئة الأمم المتحدة ، خِرَق قماشية مبلولة بالجاز في ذيول القطط ومن ثم إشعالها ووضع القطط أمام مداخل مساكن وعمارات اليهود التي كانت تتداخل مع بعضها بدرج مفتوح من البوابات إلى السقوف ، لإشعال حرائق مهولة في البيوت ، وشاهدت عمليات السلب والنهب للمحلات التجارية، وكيف كانت تُباع السلع المنهوبة برخص التراب ، حتى أن نعمان -عامل المحل – اشترى سجادة فارسية ثمينة ، وضعناها في إحدى غرف المنزل في سوق الحراج ، وحذاء أنيق كان يلبسه أخي عبدالله.
يقال أن الانجليز كان لهم ضلع كبير في هذه الأحداث ، من أجل تسريع نقل اليهود وتجارتهم إلى الأراضي المحتلة ، بعد أن كان الكثير منهم مترددين في مغادرة عدن ، بسبب ارتباطهم بالمدينة التي ولدوا فيها وزالوا فيها نشاطهم التجاري ، وكانوا يعاملوا بشكل أرقي من يهود المناطق اليمنية الأخرى، الذي كان يغلب عليهم طابع الفقر والتخلف وممارسة المهن المنبوذة والمحتقرة، غير أن الانجليز في وثائقهم التي ظهرت لاحقاً ، بعد تحقيق، قالوا أن جماعات يهودية متطرفة تتبع تنظيماً إرهابياً صهيونياً نظمت لأعمال العنف التي شنت على اليهود ومحلاتهم ، وفي نفس الوقت شن عمليات إرهابية صهيونية على بعض العرب بهدف دفعهم إلى ردات فعل عنيفة ” ينظر كتاب من ذكريات اليهود في عدن – ترجمة وتحقيق أميمة حسن شكري”
عملية الفوضى الكبيرة ترتب عليها إعلان حالة الطوارئ فُرضت على الحي والأحياء المجاورة فقلت الحركة لأيام ، وكنا نحصل على مؤن البيت من دكان الشحاري أسفل العمارة بواسطة زنبيل مربوط بحبل ننزله من النافذة مع النقود وورقة بالمطلوب من الأشياء ، ثم نقوم بسحبه للأعلى .
بعد بيت سوق الحراج إنتقلنا إلى بيت أفضل في سوق الاتحاد ، كان يقال لها بيت باعبيد، ومنذ انتقالنا إليه لم أعد اخرج للشارع الترابي ومعي أواني الغداء من صحون ودسوت لدعكها بالتراب بدلاً عن الصابون لإزالة الدسومة العالقة بها.
في آواخر الاربعينات كانت شوارع المدينة ترابية في معظمها رغم التخطيط الانيق لحواريها وروعة مساكنها، ولم نكن نشاهد إلا قلة من السيارات والمركبات التي تدخل عبر البغدة في جبل حديد ، وكانت وسائل التنقل في المدينة هي جواري الجمال ، والتي كان مبركها الأشهر في منطقة العيدروس.
وعلى ذكر الجِمَال والجمَّالة، فقد كان يصل من قرانا إلى عدن جمَّالة بجمالهم المحمَّلة بمراسيل القرى من سمون وفطير وحَبْ ورسائل، وكانوا يصلون إلى الشيخ عثمان فيبركونها هناك في مقاهي وأحواش ، ثم يستأجرون جواري أو سيارات عتيقة ويحملونها بمرسلاتهم إلى كريتر والتواهي والمعلا، وبعد أيام يعودن بذات الطريقة ومعهم مرسلات من العمال وأصحاب المحلات ومهاجري ما وراء البحار الذين يعتمدون على وكلاء في عدن لإيصال رسائلهم ونقودهم وحاجاتهم لأسرهم في القرى البعيدة.
(*) الصورة مجمعة لمظاهر الحياة في عدن في تلك الفترة ففيها ورَّاد الماء والجمَّالة وصاحب القعائد واكواز ماءالبمبة والمحلات التجارية في ممر العطارين وسوق الحراج.
(يتبع)