حوار: ميسون الإرياني (القبس الثقافي، 29 نوفمبر 2020)
على الرغم من أوضاعه الصحية الحرجة، فقد وافق الشاعر اليمني الكبير د.عبدالعزيز المقالح على الحوار، وطرح كثيراً من آرائه الفكرية والسياسية والثقافية، ملقياً الضوء على الوضع اليمني والأطراف المتصارعة التي تستخدم قصائده لأجنداتها الخاصة. ولم يغب عن بال د.المقالح في حديثه لـ«القبس الثقافي» الحال الذي وصل إليه المثقف اليمني، الذي وصفه بأنه «بات خارج اللعبة!». وفي ظل الحرب الطاحنة في اليمن، ومرضه، يؤكد د.المقالح أنه لن يغادر صنعاء، رغم أن ما يحدث يفوق المنامات الكابوسية، لكنه اختار العزلة من دون أن يترك القلم يسقط من أصابعه المضيئة، وبعد «كتاب صنعاء، كتاب القرية، كتاب الأصدقاء، كتاب بلقيس، وقصائد لمياه الأحزان، كتاب المدن»، يصدر له قريباً «كتاب الحب» و«كتاب الحرب».. وفي ما يلي نص الحوار:
● لا بد لأي حديث اليوم أن يبدأ باللحظة الراهنة، كيف يقرأ د.عبدالعزيز المقالح واقع اليمن وما يجري من أحداث؟
ما يحدث في الواقع اليمني الآن يصعب توصيفه أو تحديد خطورته. إنه بكل الصدق يفوق المنامات الكابوسية ويتجاوز مادياً ومعنوياً كل تصوّر منطقي أو عقلي. حرب شرسة تدار، وحصار خانق للبلاد، خصوصاً للمدن التي لا يتوقف الاقتتال في شوارعها وضواحيها وجبالها، مع فقدان هذه المدن ــــ عدن نموذجا ــــ لأبسط المتطلبات الضرورية من الغذاء والماء والدواء. ولعل أكثر ما يؤذي الوجدان وسط هذه المأساة المريعة أن الأطراف السياسية المتصارعة ليس لديها مشروع أو شبه مشروع للخروج من هذا الكابوس، ولا يبدو أن هناك استجابة للقبول بالحلول المطروحة محلياً وعربياً ودولياً. اندفاع خارج حدود المنطق والعقل وإزهاق يومي لأرواح الأبرياء وتدمير الإمكانات التي كانت قد تحققت بصعوبة وعلى مدى خمسين عاماً من شبه الاستقرار.
● في ما لو ساء وضع البلاد أكثر، هل سيفكر د.عبدالعزيز المقالح في الهجرة، كما فعل الكثير من القامات الأدبية في العالم العربي، حين تدهور حال بلدانها؟
كنت قطعت مع نفسي عهداً ألا أغادر صنعاء تحت أي ظرف أو ضغوط، وقد تعرّضت في السنوات الماضية لكثير منها، وكان بعضها يكفي للركون إلى الهجرة، وما زال العهد قائماً، مهما ساءت أوضاع هذا المدينة وأوضاع البلاد عامة فلن أغادرها إلى أي مكان آخر، حتى لو كان إلى قريتي التي لا تبعد عن صنعاء سوى بـ 200 كيلو متر. لقد عشت جانباً من أجمل سنوات عمري في هذه المدينة فكيف أتركها، وأترك أهلها في زمن المحنة وترقب الموت في أي لحظة؟! لقد عرض عليّ أصدقاء كثر من لبنان ومصر ومن بلدان أخرى عروضاً أخوية سخية للانتقال إلى هناك، ولكني أرى ذلك مستحيلاً وغير ممكن في مثل هذه الظروف، خاصة التي أشعر معها بأن من واجبي أن أشارك أهلي تحمّل القلق والمخاوف إلى النهاية.
● في حين رفض سعدي يوسف وأدونيس ما سمّي «الربيع العربي» ونتائجه.. فهل لنا أن نتساءل: لماذا لم يظهر د.المقالح بموقف واضح تجاهه؟
كنت في بداية ذلك «الربيع» قد اندفعت إلى تأييد كل ما بشّرت به الثورات الشابة من تغيير، وكتبت أكثر من قصيدة، منها واحدة تم نشرها في كل من مصر وتونس وليبيا، وكانت لها ردود أفعال إيجابية بين شباب الثورة وأخرى سلبية ومعادية من أنصار الأنظمة، وإذا كان «الربيع» قد اختفى ولم يحقق أهدافه فإنه تمكّن من تحريك الخامد والخامل في واقع عدد من الشعوب في المنطقة، وجعل من شعار التغيير منطلقاً وهدفاً، وأنا الآن أشارك شباب الثورة حزنهم على ما أسفرت عنه النتائج، وأتحسّر على الأحلام وعلى الدماء التي اريقت من دون أن تزهر وردة واحدة. وعندما أعود إلى قراءة قصائدي لا أتهم نفسي بالتسرّع وعدم التروّي، بل أرى أنني كنت على حق في مشاركة الشباب العربي أحلامه وتطلعاته إلى غدٍ أفضل، يضمن الحرية والكرامة والعدل للجميع.
● في كل المناسبات الوطنية والأحداث التي مرت بها البلاد قديماً، حمل المثقف اليمني هموم الناس في إبداعه.. فلماذا إذاً فشل في هذا الوقت في القيام بدوره؟
سبق أن كتبت كثيراً عن الخلل الذي أصاب الثقافة والمثقفين في بلادنا بعد إعلان التعددية الحزبية، وانخراط كثير من المبدعين في التيارات السياسية والانصراف عن دورهم كمبدعين وانحيازهم إلى تجمعاتهم الحزبية وتركهم خياراتهم الثقافية/ الوطنية الكبرى جانباً. لقد خسرت البلاد بابتعادهم عن الثقافة والإبداع ولم تستفد منهم كسياسيين، بعد أن انشغلت الأغلبية منهم بالهموم الذاتية وتناسوا هموم الناس والبلاد، ولم يعودوا ينطلقون من مواقفهم الفكرية والإبداعية، بل من مواقفهم السياسية.
● ما المأمول من المثقف اليمني في ما يحدث في بلاده؟ وكيف يسهم الأدب في رؤية الضوء آخر النفق؟
يبدو لي أن الوقت قد فات، وأن دور المثقف بات خارج نطاق ما يحدث. السياسي هو اللاعب الرئيس في هذه المرحلة، وتحديداً السياسي المسلَّح وهو يحرص على أن يكون المثقف تابعاً له وناطقاً باسمه، وإذا خرج عن هذا الإطار فالإهمال نصيبه، ولا مكان له في مناخ محكوم ومهموم بالسياسة وحدها، ولا شيء غيرها ولا صوت يسبق أو يرافق صوتها العالي والصارخ والمخيف. لقد قَبِلَ الجميع أن يكونوا مجرد شهود على قتامة المشهد.
● في ظلّ سيادة الإيديولوجيات المستحدثة، منها ما يتعلق بجماعات الموت الجديدة، كـ«داعش» وغيره.. كيف ترى مستقبل الأدب؟
سيظل الأدب ــــ من وجهة نظري ـــــ يشق طريقه تحت كل المستجدات، مهما كانت مرعبة ومخيفة، وقد شكل الماضي القريب امتحاناً عسيراً للأدب والأدباء، وطالت المحاكمات عدداً من المبدعين، وبقيت الساحة العربية رغم كل أشكال العنت تنتج إبداعاً بريئاً من سطوة الخوف ومرارة الواقع.
● كانت صنعاء تعج بالأدباء العرب ذات وقت، وشيئا فشيئا غابوا، إما قسرا مع الموت وإما للظروف الاقتصادية والأمنية أخيراً؛ حدّثنا عن الأشخاص الذين تركوا أثراً في الثقافة الإنسانية والأدبية، ويتعذر غيابهم عن الذاكرة?
ذلك عهد مضى وانقضى ولن يتكرر، كانت البلاد تسعى من خلاله إلى الانفتاح ومحاربة الانغلاق، وكان الفضل في ذلك للتنافس الذي كان قائماً بين نظامي الشطرين. وربما احتاجت البلاد كثيراً من الوقت لاستعادة شيء، ولو قليلاً من أضواء ذلك الزمن الجميل، الذي أطفأته الخلافات ودمّرت إشراقاته المغامرات غير المحسوبة.
● كتبتَ قصائد عن محنة اليمن الحالية، فهل لديك مشروع أدبي أو شعري حول هذه المحنة؟
أهيئ لجمع قصائدي الأخيرة ونشرها بعنوان «كتاب الحرب» انسجاماً مع سلسلة أعمالي الشعرية التي بدأت بـ«كتاب صنعاء» و«كتاب الأصدقاء»، و«كتاب المدن»، و«كتاب الأم» و«كتاب الحب».
● البردوني، المحضار، على قدر اختلاف اشتغالاتهما في هندسة قصائدهما إلا أنهما وصلا إلى الناس والشارع؛ فهل يلمس المقالح تكراراً لهذه التجارب العظيمة في اليمن في الوجوه الجديدة؟
لكل زمن أصواته وشعراؤه، وبين شعراء اليوم من الشبان والشابات من يمكن الرهان عليه في أخذ مكان الرواد من دون اعتماد أساليبهم أو اجترار تجاربهم، وما ينشر الآن من نصوص شعرية تلامس الأوضاع بصراحة وشعرية عالية، يؤكد أن الشعر لا يزال يمتلك القدرة على معايشة الأحداث والتعبير عنها بطرق لم يتمكن الواقع البائس ولا دخان الحرب من حجبها أو إخفاء أضوائها، كما يؤكد أن العلاقة بين الشاعر والجمهور تسير على أحسن ما يرام.
● مازال المنتج اليمني أدبياً قاصراً عن الحضور في الساحة العربية، ترى ما الأسباب وكيف تقرأ المشهد الأدبي الجديد في اليمن مقارنة مع أقرانه العرب؟
ربما كان في سنوات سابقة قد بدأ يشكّل حضوراً ولو محدود المساحة في المحيط العربي إلا أن الأحداث الأخيرة وما رافقها من إحباط قد جعلت تلك البدايات تنحسر، ومع ذلك فلا تزال دور النشر العربية تحتفي ببعض الأعمال الشعرية والروائية بما تمثله من تحدٍّ لظروف الإبداع وتجاوز للإحباطات الماثلة. وما أكاد أجزم به أن المبدع في اليمن لم يعد متفرجاً ولا ناقلاً لتجارب أشقائه، بل صار مشاركاً فاعلاً وإن في أضيق الحدود.
● يقول أدونيس إن «أهم نتاج عربي هو الفن التشكيلي. صار أهمّ من الشعر. أصبحت لغة الشعر مسوّرة، هناك كلمات، إذا ما دخلت القصيدة أو الرواية، تمنع سلطات الرقابة الديوان والرواية!».. هل تتفق معه؟ ولماذا؟
أدونيس لا يلقي الكلام على عواهنه، وما يطرحه من أفكار ورؤى يصدر عن تجربة عميقة وإدراك واسع لما يفرزه الواقع الأدبي والفكري والسياسي، وفي عصر الصورة لا بد أن تكون اللوحة هي الأكثر حضوراً وأن يسجل الفن التشكيلي تقدماً ملحوظاً في زمن الصمت والخوف من الكلام. وحتى هنا في اليمن حيث كان التصوير محرماً والموسيقى من الموبقات، أصبح للفن التشكيلي مكانة مرموقة وخرج من بين الفنانين اليمنيين عدد تجاوزت إبداعاتهم الواقع المحلي والعربي إلى العالم. وأشير هنا إلى هاشم علي، وفؤاد الفتيح، وآمنة النصيري.
● بعد كل هذه التجربة الممتدة في عالم الكتابة وتنوعها؛ أين يجد د.المقالح نفسه وما الأمنيات المخبأة للمستقبل؟
كنت وما زلت أجد نفسي في الشعر، وأحزن للوقت الذي تبدد خارج هذا الفن اللغوي الروحي القادر على التعبير والاستبطان، وقد أتمكن في ما تبقى من العمر أن أمنح هذا المعطى الفني أكبر مساحة من الوقت تعويضاً له عما فات، وهي أمنية لم أتمكن من تحقيقها في ما مضى لأسباب يطول شرحها.
● المشهد الروائي العربي مثل قطار مجنون؛ برأيك هل من رواية يمنية يعول عليها وأنت الشاهد الفاحص لهذه المرحلة؟
ما يثير اهتمامي عند الحديث عن الرواية هو هذه الكثرة التي تؤكد أن من يطمحون إلى الكتابة السردية يتخلون عن أبسط قواعد هذا الفن ومعاييره لا بحثاً عن التحديث والمغامرة، وإنما اندفاعاً مع موجة الاستسهال، ولعل الفهم المغلوط للمفردة السائدة حالياً «السرد» قد جعل كثيراً من حملة الأقلام يعتقدون أن العمل الروائي هو سرد كلام، وهذا ما يفسر كثرة الإنتاج الروائي الذي لا ينتمي منه إلى عالم الرواية سوى القليل. وما يبعث على البهجة أن المشهد الروائي في بلادنا قد أطلق أسماء لامعة من الجنسين، بدأت تأخذ مكانتها على المستوى العربي بامتياز، واللافت أن المرأة العربية بعد أن خرجت من الشرنقة بدأت تسهم في هذا المجال بنصيب وافر ومميز، ربما لكي تعوّض في تجربتها الروائية عن الحرمان الطويل الذي عانت منه عبر العصور، عصور الصمت والغياب في دهاليز الحريم.
● معروف بمقاطعتك ورفضك حضور المهرجانات الأدبية حتى في تكريمك لفوزك بجائزه العويس وتمت دعوة لجنة الجائزة إلى اليمن لتكريمك.. فهل هناك سبب؟
إلى أواخر السبعينيات من القرن الماضي كنت شغوفاً بالأسفار والتنقل من بلد إلى آخر إلى درجة أحدثت عندي نوعاً من التشبع ولم أعد أرى في الأسفار جديداً، ولهذا عندما عدت إلى صنعاء في أواخر عام 1977، ألقيت عصا الأسفار، وقررت ألا أترك هذه المدينة الجميلة بمعمارها وطقسها وأهلها، وبما ربطتني بها من ذكريات زمن الطفولة. وقد نسج بعض الأصدقاء من خيالهم أسطورة «الفوبيا» التي لا أساس لها، والدليل على ذلك أنني نادر التنقل داخل البلاد وأنني لم أعرف بعض مدنها حتى الآن.
● قبل سنوات قرأنا خبر تعيينك رئيسا للمجمع اللغوي، ما رؤية هذا المجمع وإلى أين وصل هذا المشروع؟
تأخر مشروع إقامة هذا المجمع أكثر من ربع قرن نتيجة ملابسات تتعلق بعدم فهم الدور الذي ينبغي أن يقوم به مجمع كهذا لحماية اللغة العربية من التدهور الذي بدأ يلحق بها، لا سيما في مجال الإعلام والتعليم، وقد تم انتخابي لرئاسة المجمع من قبل الهيئة العامة التي تتألف من عشرات الزملاء المتخصصين في مجال اللغة العربية في عدد من الجامعات اليمنية، ورغم الظروف الصعبة التي صدر فيها قرار الإنشاء رسمياً فقد تمكنا من إيجاد مقر مؤقت وتأثيثه، وبدأ العمل من خلال اللجان المتخصصة، وكان المأمول أن يتم افتتاحه بحضور وفود من المجامع العربية إلا أن الظروف الراهنة حالت دون ذلك.
● هناك جائزة وطنية سنوية تحمل اسم «جائزة عبدالعزيز المقالح للإبداع الأدبي».. ما الذي يمنع من إشهارها كجائزة عربية أو عالمية؟
هي جائزة رمزية وقد اقتطعتُ رأسمالها المخصص من المبلغ الذي حصلتُ عليه من جائزة العويس، وكنت وعدد من زملائي متفائلين بأن تتوسع قيمة الجائزة وتجد من يساندها، إلا أن الأحداث العربية التي بدأت مع ثورات الربيع العربي أوقفت كثيراً من الأنشطة الأدبية وأوهمت أن هناك ما هو أهم لينشغل به الناس.
● هل هناك مشاريع أدبية مقبلة؟
عندي الآن أكثر من كتاب معدّ للنشر، أولها كتاب عن قضايا اللغة العربية يضم الأبحاث العلمية التي شاركت بها في المؤتمرات السنوية لمجمع اللغة العربية بالقاهرة، ولي أكثر من مجموعة شعرية أنتظر صفاء الأجواء للبدء في نشرها.
الاحتكام للديموقراطية
———————
الديموقراطية في اليمن ليست غرضاً واضحاً لأي من الأطراف المشاركة في الظرف الحالي.. لكن د. المقالح يؤكد أن ثمة شعارات ترتفع منذ وقت قصير بأن «الديموقراطية هي الحل، والاعتراف بالآخر هو الحل، والمواطنة المتساوية هي الحل»، لكن عندما يأتي التطبيق تموت الشعارات ويتخلى حاملوها عنها وكأن لم تكن. ويرى د.المقالح صعوبة خروج اليمن ـ بعض الأقطار العربية التي تعاني محنة الانقسامات ـ من المحنة الراهنة والشاملة من دون الاحتكام إلى المعنى الكبير الذي مثلته وتمثله الديموقراطية في كثير من الدول المتقدمة، مضيفاً: «لن تصلح أحوالنا وتحل مشاكلنا وفي طليعتها مشكلة التعامل مع السلطة ما لم تكن صناديق الاقتراع هي المرجعية لمن يريد أن يصل إلى الحكم، ولا أتردد عن القول بأن بلادنا كانت قد بدأت خطواتها الأولى على هذا الطريق بعد أن تحققت وحدة الشطرين وتم إعلان التعددية الحزبية والاتفاق على الأخذ بمبدأ تبادل السلطة إلا أن ذلك الحلم الجميل لم يدم كثيراً فقد ظهرت النزعات الأنانية والإقصائية ونجحت في تخريب المشروع الوليد وأوصلتنا إلى مرحلة الاحتكام للقوة ولغلبة السلاح».