مئة يوم من “الإبادة الجماعية” في غزة وصورة “إسرائيل” تتمزق

• أحمد موسى
تحليل|أحمد موسى| مئةِ يومٍ من الحرب على غزةَ ، تدميراً وقتلا وذبحا وسفك دماء ، مصيرُها معلَّقٌ على جسرٍ انتخابي في أميركا ، ومصالحَ شخصيةٍ لنتنياهو ، وتبعيةٍ بريطانية تسحبُها واشنطن الى عمق البحر الأحمر ، وحربُ الأنفاقِ السرية دخلتِ الممراتِ والمضائقَ المائيةَ فصارتِ الجبهةُ جَبَهات ، والطُّوفانُ طَوَّقَ إسرائيل بحبلِ محكمة العدل الدولية التي ستبدأ المذاكرةَ في أساس الدعوى ، مئةُ يومٍ جاءت بوقع مئة عام ، وبنتائجَ انتصرت فيها إسرائيلُ على الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيين ، وأبقت اهدافَها بمعدلاتِ ما تحتَ الصِّفر ، فلا هي أَسقطت قياداتِ ح-م-ا-س و”لا استَرجعت أسراها” ولا فَككتِ القدرةَ العسكريةَ لل-م-ق-ا-و-م-ة ، أما نتائجُ جيشِ إسرائيل ف”بالمَيدان” اختصرها بالعثور على صورةٍ بهية لمحمد ضيف ، والقبضِ على حذاء تُنسب هالتُه الى يحيى السنوار ، وما عدا ذلك فإنَّ النتائجَ العسكرية للجيش الإسرائيلي تعكِسُها صحفُ إسرائيلَ نفسِها وتتحدث عن مَسافة بعيدة عن القضاء على ح-م-ا-س ، وتبعاً لتوصيف “يديعوت أحرونوت” فإن “إسرائيل سَقطت في بئرٍ عميقة منذ 7 أكتوبر” ، والبئرُ توسَّعت فغرقت في البحر الأحمر ، مئة من الإبادة الجماعية في غزة وصورة إسرائيل تمزقت والشارع الإسرائيلي ينتفض على نفسه في صورة شتاء على تغرق حكامها في مستنقع الهزيمة والانعزال والعزلة.

سردية الاطباق والمواجهة

مئة يوم من الحرب وغزة ضئيلة المساحة والإمكانات الكثيفة السكان ، التي لطالما وصفت بأنها مجرد سجن كبير لا تزال تستعصي على السقوط أمام جحافل الجيش الإسرائيلي الذي سبق له أن هزم جيوش ما كانت وصفت بدول الطوق العربية مجتمعة واحتل أجزاء شاسعة من أراضيها في ستة أيام.

تمهيد ناري ، قصف عنيف ومستمر للترويع ، ومحاولة الوصول للأنفاق بالقصف العميق بذخاير أميركية مضادة للتحصينات ، فما بين السابع من أكتوبر والعملية البرية نفذت ما يقرب من 500 ساعة ، ألقت قرابة 20,000 طن من المتفجرات في ذلك اليوم ، دفعت بوحداتها من ثلاثة محاور من الشمال عبر بيت حانون والشمال الغربي قرب بيت لاهيا لتغطية المساحة الممتدة من البحر المتوسط غربا حتى السياج الحدودي شرقاً ومن الوسط اجتازت الأراضي الزراعية من جحر الديك وصولاً لشارع صلاح الدين والهدف “تقطيع أوصال” الشمال بخطوط عرضية وطولية مع الإبقاء على الغطاء الناري بقصف مدفعي وجوي وبحري كانت مهمة كتائب القسام وفصائل ال-م-ق-ا-و-م-ة أكثر صعوبة من الناحية النظرية بغياب “التكافؤ” في ميزان القوة من حيث التجهيز والتسليح واعداد الجنود ، لكن ال-م-ق-ا-و-م-ة أظهرت جانباً من الوجه الذي كثيراً ما بقي صامداً، ألوية متعددة نظام بقي فعالاً بالتواصل والتنسيق وإعطاء الأوامر ولعبت قدرة ال-م-ق-ا-و-م-ة على سرعة استقراء خطط القوات المتوغلة لصالحها ومكنتها من بلورة في آلية عمل ميدانية مستفيدة من معرفتها بطبيعة وبيئة مسرح القتال.

مسرح الهزيمة

لا تزيد مساحة القطاع على 365 كيلومتراً ، وهو واحد من أكثر الأماكن اكتظاظا بشريا وعمرانيا وسكانه يعرفونه عن ظهر قلب وال-م-ق-ا-و-م-و-ن يعرفون أرضه وما تحتها ، اصطدمت قوات الاحتلال بعقد قتالية قاسية وحي الشجاعية إحداها حاصره لواء نخبة المشاة “جولاني” وسجل فيه الخسائر التي تعد الأكبر في تاريخه ، مخيم الجليل وخان يونس أيضاً واجهت إسرائيل فيهما مشاكل على صعيد الإنجاز الميداني والخسائر البشرية مع بداية الشهر الثاني للحرب البرية.

توسعت العملية العسكرية بمهاجمة جنوب القطاع ولاحقاً الوسط بشكل شبه متزامن ، دفعت إسرائيل الألوية التي ستقاتل في جنوب القطاع عبر شارع صلاح الدين دون أن تتمكن من الاطباق على مدينة خان يونيس ، قرارة توقفت عندها القوة المهاجمة دون أن تحرز تقدماً ، وتعرضت لهجمات أوقعت خسائر في الجنود والآليات عند هذه النقطة ، وبعد قرابة شهرين على العملية أعادت إسرائيل توزيع جيشها ، فسحبت ألوية أبرزها جولاني ودفعت بثمانية ألوية إلى الجنوب بينما قدرت واشنطن عدد الجنود في الشمال بنحو 50 ألفا بحسب نيويورك تايمز ، وبالتوازي كثفت كتائب ال-ق-س-ا-م من هجماتها وما تظهره صور الكتائب هو اعتماد الكمائن وحقول ألغام وعمليات استدراج المركبة والجنود وعدلت من تكتيكها القتالي مؤكدة سلامة واستمرارية تسلسل إصدار وتنفيذ الأوامر الميدانية ، فكان قطاع بحجم خسائر العدو وأكثر ، وعلى بعد أكثر من 100 يوم على بدء معركة من العسير رؤية طريق واضح لنصر عسكري حاسم لإسرائيل تقول صحيفة هآرتس ، فالمعطيات الميدانية تجعل “الحصيلة الإسرائيلية أمرا بعيد المنال” ، ولم تعد أولوية على الأقل فالمدرك “صعوبة تحقيقها”.

معادلات الحرب وما بعدها

بدت صورة الجيش الإسرائيلي أمام هجوم ال-م-ق-ا-و-م-ة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر مروراً بأطنان البارود التي ألقيت على رؤوس أهل غزة وسط تأييد غربي لإسرائيل ظلت تتبلور في الأوساط السياسية الإقليمية والدولية قناعات جديدة مفادها أن “معادلات ما بعد الحرب لن تبقى على ما كانت عليه قبلها” ، ذاك استثناء فريد ما كان لأحد أن يتوقع تسجيله في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي ، قبل أن تبدأ تل أبيب حربها المدمرة بحجة هجوم كتائب ال-ق-س-ا-م الذراع المسلحة لحركة ح-م-ا-س على المعسكرات والمستوطنات المحيطة بقطاع غزة يوم السابع من تشرين أول/أكتوبر الماضي الثمن الباهظ المدفوع فلسطينياً على مذبح الحرب ، كان وما زال استثنائياً ، نحو 100,000 ضحية ما بين شهيد وجريح ومفقود ، أي ما معدله ألف لكل يوم ، فضلاً عن تشريد 2,800,000 من بيوتهم وبلداتهم بعد تسويتها بالأرض ، وهو ما يعني في حساب الأرقام الصماء 28,000 نازح يومياً ، بينما منعت عن أهل غزة جميعاً إمدادات الغذاء والماء والدواء والكهرباء والوقود ، لم يكن أقل استثنائية أو فرادة في ميزات هذه الحرب.

المحرقة.. الضحية والتعامي

وقادة الغرب يصطفون خلف حكومة بنيامين نتنياهو متجاهلين الصور المتدفقة لأشلاء الضحايا الأبرياء ولركام الأحياء السكنية ، ولكل ما أجج الاحتجاجات الشعبية في مختلف أنحاء العالم ، إلى حد استثنائي نادر ، وجد تعبيره في تعالي الهتافات ضد “إسقاط القيم الإنسانية والحضارية” التي سبق استخدامها ، وجه جن للتدخل في مناطق أخرى من العالم ، كانت المقاربة التي روجتها إسرائيل وتبناها حلفاؤها تقوم على تجاهل سبعة عقود ونيف ، فمن أعمال الغزو والتقتيل والتهجير التي تعرض لها الشعب الفلسطيني قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر ، وقد تمحورت الدعاية التي رافقت الحرب حول هدف مفاده “ليّ عنق التاريخ” ، وتصوير الصراع على أنه بدأ في ذلك اليوم بهجوم “إرهابي” فلسطيني ضد سكان إسرائيليين آمنين أو حتى ضد ناجين من “المحرقة النازية” ، وفق روايتهم التي حاولت أن تحشر في سياق الأحداث عنوانه “جرائم إبادة ضد اليهود” سبقت إنشاء إسرائيل على أرض فلسطين ، ولم يكن للفلسطينيين علاقة بها.

سيناريوهات بلينكن استجداء إسرائيل

أرادوا احتكار صفة “الضحيّة” حتى في حكمة ارتكابهم جرائم تلقى إلى مستوى “التطهير العرقي” ، وإذا اتسق مع ذلك سيل تصريحات غربية أيّدت ما سمته “حق إسرائيل” في الدفاع عن نفسها ، فإن استثناء آخر جديداً وغير مسبوق ، سيقع عشية اليوم ال100 للحرب ، جلب إسرائيل لتمثل أمام “محكمة العدل الدولية” بناء على دعوة من جنوب إفريقيا تتهمها ب”ارتكاب إبادة جماعية” في قطاع غزة ، على وقع ذلك كله ، بدأ الجانب الوحيد غير الاستثنائي في الحرب وتفاعلاتها هو “التحرك الدبلوماسي” الأمريكي والغربي الذي يسعى ابتداءً إلى “فرض الوصاية” على الشعب الفلسطيني ، وشهد تحت عنوان “البحث في خطط اليوم التالي” لانتهاء القتال ، طرح “سيناريوهات” لا يقوم أي منها على “تطبيق قرارات الشرعية الدولية” أو مبدأ حق الشعوب في الحرية وتقرير المصير.

صحيح أن وزير الخارجية الأمريكية أنتوني بلينكن أكد أخيراً على “ضرورة إنهاء حرب غزة” تمهيداً لخلق مسار يؤدي إلى “دولة” فلسطينية ويحقق “الإستقرار” المنشود لعزل إيران كما قال ، غير أنه ما زال “يرفض” وقف إطلاق النار ، وتلك ليست أحجية كما قد تبدو للوهلة الأولى بقدر ما تنطوي على “مفهوم للنهاية المشتهاة” ينتصر فيها الإسرائيليون ويستسلم الفلسطينيون ليعودوا من بعد إلى انتظار وعد واشنطن المتكرر ب”منحهم الحق في إقامة دولتهم” وهو وعد سمعوه واختبروه على مدى عقود سلفت ، فلم يحصدوا غير “الخيبة” الممهورة دوماً باستمرار استباحة دمهم واعتقال أبنائهم وهدم بيوتهم واستيطان أرضهم وتهويد مقدساتهم ، هذه بضاعة أمريكية قديمة في غلاف جديد قال فلسطينيون كثر ، محذرين من شرائها ، بينما وصلت غزة الجريحة تقديم الدليل تلو الدليل على أن الاستسلام المرتجى إسرائيلياً وأمريكيا ليس واردا في حساباتها ، وأن النهاية الوحيدة التي يقبلها الشعب الفلسطيني لكفاحه التاريخية هي الحرية الآن أو غداً أو بعد دهر.

• كاتب صحفي وناشر موقع “ميديا برس ليبانون”

اخبار ذات صلة