مطهر تقي
من الصعب على شباب اليوم أن يصدقوا قدر التخلف والبؤس والمعاناة من الفقر والمرض والجهل الذي عاش فيه آباؤهم واجدادهم قبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر…. وما سأرويه كأمثلة (لا كحصر) من المعاناة وانعدام مظاهر الحياه المعيشية ليس فيه شيئا من المبالغة أو تجاوز الحقيقة التي كانت ماثلة أمام الجميع في ذلك الوقت فحكم الإمام يحيى بالرغم من علمه واجتهاده وكذلك ابنه الإمام احمد بالرغم من شجاعته وفقهه إلا أن عقليتهما المتخلفة عن مسايرة الزمن ومتغيراته قد جعلهما مثالا للانغلاق والإصرار بتمسكهما على تخلف الشعب في كل مسار حياته فقد رفضا نصائح العلماء والوجهاء والمثقفين وحتى نصائح أفراد الأسرة الحاكمة لإحداث تغييرات وإصلاحات تلبي بعض متطلبات الشعب فقد وصل الأمر بالإمام يحيى أن سجن بعض أولاده بعد أن طالبوه بإحداث إصلاحات والانفتاح على العالم المحيط كذلك الإمام أحمد الذي رفض نصائح أولاد إخوته بضرورة التغيير والإصلاح وقام بنفي بعضهم للعمل في السفارتين اليمنيتين في مصر وألمانيا…. فقد أصرا على الانغلاق والقضاء على اي دعوة للإصلاح وإحداث تنمية للشعب جعلت الحكم يظلم الشعب ويظلم حتى الأسرة الحاكمة نفسها.
وحتى نستخلص الفارق الحضاري بين ما تحقق من انجازات خلال حكم الإمام يحيى وابنه احمد والذي استمر قرابة خمسين عاما والحكم الجمهوري الذي استمر كذلك قرابة خمسين عاما(1962_2011)(بعد احداث عام 2011 وكذلك بعد العدوان توقفت التنمية بكل أشكالها) وما تحقق من انجازات تنموية خلال الحكم الملكي الفردي وما تحقق كذلك من إنجازات في العصر الجمهوري الجمعي تتضح لنا الحقائق التالية:
أولا في المجال السياسي:
كان الحكم في العصر الامامي الملكي حكما وراثيا في أسرة واحده تجاوزه الزمن وكان الإمام هو صاحب الأمر في الصغيرة والكبيرة حتى في صرف البترول وشراء تواير للسيارات وحتى في تحديد من يركب الطائرتين(شبام وظفار) وتعيين صغار وكبار الموظفين أو الأمر بإقراض الموظف مبلغ بسيط من المال يسد ضرورات معيشته
وكان نظام الإمام يحيى ومن بعده نظام احمد قد واصل إدارة الحكم كما تركه الأتراك قبل انسحابهم ولم يحاولا الاعتماد على القوانين واللوائح الجديدة في تنظيم العمل في حكمهما كحال بقية دول الجوار حتى شكل ولي العهد محمد البدر اول وزارة ترأسها بداية عام 1962وأمر حينها بوضع نظام إداري ولائحة لاختصاص كل وزارة وكان ذلك اول خطوة إدارية عصرية تنظم عمل الوزارات ولو بصورة متواضعة.
ثانيا في الجانب الاقتصادي:
لم يكن في العصر الملكي اي قاعدة اقتصادية(ميكنة زراعية وصناعة أولية وشركات تجارية واستثمار وبنوك) كما هو موجود على سبيل المثال في دول الجوار كالسعودية والحبشة وعدن(كان يوجد مكتب للبنك الأهلي السعودي في صنعاء يقوم بالتحويلات المالية الخاصة بالمغتربين) فقد كانت الحياة الاقتصادية تعتمد على الزراعة بصورتها البدائية التي لا تنتج إلا ما يسد الكفاف وتعتمد اعتمادا كليا على مياه الأمطار بدون سدود تحويلية او حتى حواجز مائية او نظام ري يستغل الأمطار الموسمية وكانت الزراعة عرضة للجفاف والأوبئة الزراعية وانتشار الجراد وظهور المجاعات في مختلف المناطق بين عام وآخر وقد كان قدر الزكاة يحدد بعام الخير وعلى المزارع في العام التالي حتى اذا لم تنزل الأمطار علية أن يدفع زكاته كما دفعها العام الذي قبله كما يقرر ذلك المخمن(وهو موظف الدولة الذي يحدد قدر الزكاة وقد ألغت الثورة دور المخمن وجعلت الزكاة أمانة لدى المزارع)
أما الجانب الاقتصادي وقتها كان نشاط اقتصادي محدود وبدائي ممثل بالدكاكين الصغيرة في المدن أما الريف فقد كان نظام مقايضة السلعة بالسلعة الأخرى هو السائد في التعامل وكانت الصادرات اليمنية إلى الخارج محصورة على تصدير الجلود والبن وحسب كمية الأمطار
وكان عدد سكان اليمن في عهد الإمام يحيى حسب كشوفات الفطرة حوالي ثلاثة مليون ونصف إنسان وقرابة أربعة إلى خمسة ملايين نسمة نهاية عهد الإمام أحمد وكان عدد موظفي الدولة محدود ويتقاضون نصف راتبهم البسيط نقدا ونصفه الآخر حبوب عينيه وينقطع ذلك الراتب بوفاة الموظف لعدم وجود نظام تقاعد…. ولم يعرف نظام ما قبل الثورة ما يسمى اليوم ميزانية تقديرية للدولة وسياسية مالية بالمعنى المعروف اليوم فقد كان هم النظام هو تحصيل الزكاة و بعض الجبايات والضرائب الأخرى والصرف بأقل قدر ويحتفظ بالباقي من المال في الخزائن(وكان الريال النمساوي ماريا تريزا الفضة هو العملة المتداولة في اليمن لعدم وجود عملة يمنية غير البقشة ونصف البقشة النحاس التي كانت تضرب في دار السعادة في صنعاء).
ولعل قيام عدد من التجار (بتشجيع من ولي العهد ومن الحسن بن علي وزير الاقتصاد وقتها) بإنشاء نواة شركة الخطوط الجوية اليمنية نهاية عام 59 بشراء التجار طائرتي براش وبلقيس من الإمام احمد وتشغيلهما تجاريا وكذلك قيام التجار بإنشاء شركة الكهرباء وشراء عدد محدود من الباصات لشركة النقل البري عام 61 كان اول عمل تجاري استثماري حديث في اليمن.
ثالثا الجانب التعليمي:
كان عدد المدارس في المدن الرئيسية صنعاء وتعز والحديدة حتى سبتمبر عام 1962 ثلاث مدارس ثانوية وثلاث مدارس متوسطة واربع مدارس ابتدائية في صنعاء العاصمة واثنتين في تعز ومثلهما في الحديدة بالإضافة إلى المدرسة العلمية ودار المعلمين في صنعاء ومدرسة علمية صغيرة في صعده (وكان إجمالي عدد الطلبة الذين تم ارسالهم للدراسة إلى الخارج ابتداء ببعثة إيطاليا والعراق لا يزيد عن ١٥٠ طالبا) أما بقية المدن الاخرى ومراكز الالوية(المحافظات) فقد كانت الكتاتيب أو ما يسمى بالمعلامة التي هي عبارة عن غرفة واحده وأستاذ واحد يدرس القراءة ومبادئ الحساب والخط لعدد محدود من التلاميذ وكان الاعتماد الرئيسي للتعليم يعتمد على المساجد بتبرع بعض العلماء والمتعلمين بتدريس الفقه والحديث والنحو والصرف وكانت نسبة الأمية حسب تقرير الأمم المتحدة الصادر عام63 تشكل نسبة 95% من السكان.
رابعا الجانب الصحي:
كان عدد المستشفيات في اليمن ثلاث الأولى في صنعاء والمسمى بالمستشفى المتوكلي(المستشفى الجمهوري حاليا) الذي أسس عام1927 بمساعدة إيطالية والذي كان يضم عددا من الغرف تظم أربعين سريرا برعاية أربعة أطباء إيطاليين ومثلهم من الممرضات والممرضين بالإضافة إلى بعض الاطباء الذين كانوا يعملون مع الأتراك ومن تخرج من الطبلة الاثني عشر الذين ذهبوا لدراسة الطب في إيطاليا لمدة سنتين ثم أفتتح قبل الثورة مركز صحي في حي المنطقة بجوار دار البشائر لضرب الابر والمجارحة…. ومستشفى تعز ومستشفى الحديدة وهما بنفس الإمكانات البسيطة لمستشفى صنعاء وبعدد دكاترة وممرضين أقل من المطلوب وقد كان عدد الأطباء في اليمن قبل الثورة لا يزيد عن عشرين طبيبا أما بقية الالوية وقراها فقد كانت محرومة من المرافق الصحية وأغلب سكانها الذين كانوا يعانون من أمراض عدة أهمها أمراض فقر الدم والسل والبلهارسيا والحميات بأنواعها مثل الضنك والملاريا وكذلك الجرب الذي كان منتشرا في محافظة لواء تعز بالخصوص وكان المواطنون يعتمدون على مقاومة الأمراض بالتداوي بالأعشاب والمكاوي والحجامة والعزائم والاحراز وكانت الوفيات بين الأطفال في مختلف أنحاء اليمن هي الأكثر عدد حتى خصصت مقابر للأطفال وذلك بسبب انتشار الأمراض المعدية موسميا(الأمراض الستة القاتلة) مثل الجدري وشلل الأطفال والسعال الديكي والحصبة والدفتيريا (الخناق) بسبب عدم تطعيم الأطفال ضد تلك الأمراض وكانت المجاعات وانتشار الأمراض سببا رئيسيا في قلة عدد سكان اليمن….وكان أول تطعيم ضد الجدري قد تم عام 1961 (بما يسمى بالعدا) (ولم تقم الدولة بإجراء حملات تطعيم منتظمة ضد تلك الأمراض إلا ابتداء بعام 1977) ولعل عدم وجود مياه نقية واعتماد غالبية المواطنين وخصوصا في الريف على برك الأمطار الموسمية في المساجد وغيرها كان سببا لتلك الأمراض.
خامسا الطرق والمواصلات:
حتى عام 1962 لم يكن في اليمن طريق مزفلت إلا طريق صنعاء الحديدة بطول مئاتي وستة وعشرين كيلو متر(نفذه الصينيون مع مصنع للغزل والنسيج بقرض طويل الأجل وتم افتتاحمها بداية عام 1962) وطريق ممهد ترابي بين المخا ومدينة تعز قام الأمريكيون بتنفيذه وكانت الموانئ البحرية اليمنية لا تعرف الارصفة والموانئ الحديثة إلا عام 1961حين تم افتتاح ميناء الحديدة الذي قام ببنائه الاتحاد السوفيتي.
وكان التواصل بين المدن والقرى اليمنية بالغ الصعوبة نظرا للجبال الشاهقة التي يسكنها أغلب السكان وبصورة متفرقة وكان عدد السيارات والناقلات حتى عام 1962 محدود وفي أهم المدن وكان الاعتماد الكلي في التنقلات بين المدن والقرى يتم على البغال والحمير والجمال.
تلك بعض الحقائق لأهم معالم حياة الشعب اليمني التي كان يعيشها قبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر الخالدة عام ١٩٦٢ التي تحققت خلال خمسين عاما من حكم الإمام يحيي ومن بعده ابنه الإمام أحمد.
والسؤال المهم ماذا حققت ثورة السادس والعشرين من سبتمبر في ظل النظام الجمهوري ورؤساء الجمهورية اللذين تولوا الحكم طيلة خمسين عاما من منجزات مساوية لما ذكرته من معالم وحتى عام ٢٠١١ ?
الجواب باختصار :
١- حكم اليمنيون وبكل شرائحهم الاجتماعية أنفسهم بأنفسهم ولا فرق بين قحطاني وهاشمي وقبلي ومدني في الحقوق والواجبات، وفي ظل الدستور والقوانين والأنظمة (التي تطورت خلال الخمسين سنة) التي تكفل الحق لأي مواطن في الترشح لرئاسة الجمهورية أو لمجلس النواب أو للسلطة المحلية ومن حقه كذلك أن ينشئ حزبا سياسيا ويمتلك صحيفة أو إذاعة أو قناة تلفزيونية، كما من حقه أن ينشئ مؤسسة أو منظمة أو جمعية مجتمع مدني بموجب القوانين المنظمة.
٢- قامت حركة اقتصادية واسعة خلال الخمسين السنة من عمر الجمهورية وظهرت مئات الشركات التجارية وتم بناء مئات المصانع وتم استخراج البترول والغاز وقام بالتالي اقتصاد وطني بأنظمة حديثة، وتمكّن اليمن من الانفتاح على مختلف مناطق العالم من خلال سبعة عشر بنكا ومئات المصارف الخاصة.
٣- تطور التعليم بإنشاء قرابة ستة عشر الف مدرسة أساسية ( ابتدائي إعدادي ثانوي ) ومئات المعاهد الفنية والمهنية المتخصصة وثمانية وعشرين جامعة جميعها تحتضن قرابة سبعة ملايين طالب ومخرجات تعليمية من جامعات الداخل والخارج فاق عددها مئات الآلاف من الأطباء والمهندسين والمحامين والمحاسبين والتخصصات العليا في مختلف المجالات من خريجي الجامعات الذين توزعوا في مختلف مرافق الدولة.
٤- تم ربط مدن اليمن بتجمعاته السكانية المقدرة بقرابة ثلاثة وثلاثين ألف تجمع سكاني لقرابة ثلاثين مليون إنسان بشبكة طرق بمختلف مستوياتها وأنواعها تقدر.
بأربعة وثمانين ألف كيلو متر ( منها تسعة عشر ألف كيلو متر مسفلتة من ضمنها شوارع المدن في المحافظات بحوالي ثلاثة آلاف كيلو متر مربع ) تتخللها مئات الجسور والأنفاق ( حسب إحصاء البنك الدولي لعام ٢٠١٠ ).
٥- تم بناء الفين ومئتين وستين سدا مائيا وخزانات مياه وكريف وقنوات ري في كثير من المناطق اليمنية حسب إحصاء 2007 وشهدت الزراعة اهتماما كبيرا في إنتاج الفواكه والخضار بالرغم من سيطرة زراعة القات على حساب مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية.
٦- تم الاهتمام بالجانب الصحي فبدلا من ثلاث مستشفيات حكومية في صنعاء وتعز والحديدة تم بناء مائه وثلاثة وسبعين مستشفى حكوميا ومئتين واثنين وأربعين مستشفى خاصة (حسب إحصاء وزارة الصحة) يعمل فيها آلاف الأطباء ومساعديهم وفي مختلف التخصصات الطبية .
ولعل ما ذكرت من حقائق عن حياة الشعب اليمني قبل ثورة السادس والعشرين من سبتمبر عام ٦٢ التي لا زالت في ذاكرة الكثير من أبناء الشعب اليمني …. وكذلك ما ذكرت من حقائق عن التغيير والتنمية الشاملة التي تم تحقيقها بعد الثورة المباركة بعرق وكد الشعب اليمني كفيلة أن توضح للجيل الحاضر الفرق المهول والشاسع في حياة الشعب اليمني قبل الثورة و بعد الثورة، ويعلموا لماذا ثار الشعب اليمني على الحكم الملكي الذي ظلم الشعب وظلم نفسه (ولو قدر الله أن تجاوزت الثورة بعد قيامها مؤامرة حرب السبع السنوات وتجاوز الشطران حرب 1972 و1979 وكذلك حرب1994وتم تلافي الفساد الذي استشرى خلال بعض السنوات لتمكن الشعب اليمني من إنجاز أكثر مما ذكرت وفي مختلف المجالات)
أرجو الله أن يبصر الذين يحاولون حجب ضوء الشمس بغربال التعصب والمكابرة بسؤالهم الأجوف الذي ظهر مؤخرا : ماذا فعلت ثورة ستة وعشرين سبتمبر ?? أرجو عند قراءتهم لما ذكرته إن كانوا لا يعلمون أن الجواب قد وصلهم بحقائق لا جدال فيها ولا كيد ولا كذب على التاريخ.
مبروك لكل أبناء الشعب اليمني بعيد ثورتهم السبتمبرية الخالدة.
وإن شاء الله يكون الشعب اليمني على موعد مع إنجازات تنموية شاملة تعوض ما خسره الشعب من جرا الركود السياسي والعدوان الغاشم الذي دمر كثير من منجزات الشعب اليمني.