أثناء جلسة الاستماع الساخنة، التي عقدت في 21 سبتمبر، وامتدت لـ7 ساعات، ألح النائب الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا، براد شيرمان، على جيمي دايمون، الرئيس التنفيذي لشركة “جيه بي مورجان تشيس”، في السؤال حول ما إذا كان بنكه سيقطع علاقاته مع الشركات الروسية، بما فيها الشركة العملاقة في مجال الطاقة “غازبروم بي جيه إس سي”.
وأكد شيرمان أن بعض البنوك، كالبنك الذي يترأسه دايمون، تستغل ثغرة العقوبات لمواصلة أعمالها التجارية في روسيا برغم غزوها لأوكرانيا.
وقبل أن يقاطعه شيرمان بتوجيه نظراته الحادة، التي حملت الاستفسار ذاته، إلى جين فريزر، الرئيسة التنفيذية لمجموعة “سيتي جروب” المصرفية، أجاب دايمون، قائلاً: “إننا نتبع تعليمات الحكومة الأميركية التي طلبت منا القيام بذلك”.
أظهر هذا النقاش كيف وقعت أكبر البنوك في الولايات المتحدة في شرك عملية الشد والجذب بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن من جانب، والكونجرس من جانب آخر، بشأن العقوبات. فخلف الكواليس، حضت وزارتا الخزانة والخارجية البنوك الكبرى، بما فيها بنكا “جيه بي مورجان” و”سيتي جروب”، على مواصلة الأعمال التجارية مع بعض الشركات الروسية الاستراتيجية، وفقاً لما نقلته “بلومبرغ” عن مصادر مطلعة.
ووفقاً لـ”بلومبرغ”، فإن هذا “الجهد الهادئ” يمثل “جزءاً من جهود الإدارة الأميركية لتقليل التداعيات السلبية لمنظومة العقوبات المفروضة على موسكو”.
وأوضحت أنه “في حين يعمد البعض في الكونجرس إلى قلب الطاولة من أجل فرض تدابير أكثر صرامة ضد روسيا، تحاول الإدارة وقف تقدم روسيا، مع الحيلولة في الوقت ذاته، دون وقوع كارثة اقتصادية عالمية”.
في هذا السياق، قالت ننيدينما إيفودو نويكي، المحامية المتخصصة في العقوبات الاقتصادية الأميركية والحظر التجاري في شركة “Akin Gump Strauss Hauer & Feld LLP”، في مقابلة مع “بلومبرغ”، إن “الكونجرس بحاجة إلى تفهم ذلك، فالحكومة الأميركية لم تفرض حظراً شاملاً على روسيا، ولا تزال هناك جيوب أعمال تجارية مصرح بها”.
وأضافت أن وزارة الخزانة “ستواصل عقد اجتماعات لتوجيه البنوك بشأن هذه الجيوب الخاصة بالمعاملات المصرح بها، لا سيما في نطاق الأنشطة الإنسانية”.
وقالت إدارة بايدن مراراً إنها تريد من البنوك والشركات “الحفاظ على تدفق الأموال إلى القطاعات غير الخاضعة للعقوبات في الاقتصاد الروسي”، إلا أنه لم يتم الكشف في السابق عن حدود محادثاتها مع البنوك.
ووفقاً لما نقلته “بلومبرغ” عن مصادرها، فقد دعا مسؤولو وزارتي الخزانة والخارجية، المقرضين إلى مواصلة تقديم الخدمات الأساسية، مثل تسوية الدولار الأميركي، وتحويلات الدفع، وعروض التمويل التجاري للشركات الروسية المعفاة من جوانب معينة من العقوبات، مثل “غازبروم”، أو الشركات المنتجة للأسمدة مثل “Uralkali PJSC”، و”PhosAgro PJSC”.
وتلقي عملية الأخذ والرد هذه، الضوء على “التوازن الذي يتعين على البنوك والحكومة المحافظة عليه”، بين حرمان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من الأموال التي يحتاج إليها لتمويل الحرب في أوكرانيا من جانب، والحيلولة دون وقوع الصدمات الاقتصادية الأوسع نطاقاً من جانب آخر.
وتتوقع “بلومبرغ” أن تفرض البنوك قيوداً من خلال “حظر الخدمات على البنوك والأفراد والكيانات الخاضعة للعقوبات”، مع إمكانية معاقبتها “بفرض غرامات تصل إلى عدة مليارات من الدولارات في حالة عدم الامتثال”.
وفي الوقت نفسه، تضطلع هذه البنوك بدور مركزي للحفاظ على تدفق الأموال في جميع أنحاء العالم، حتى في الوقت الذي تنسحب فيه بدرجة كبيرة من روسيا.
ففي مجموعة “سيتي جروب”، أمضى المسؤولون التنفيذيون شهوراً في تقليص العمليات في روسيا، وتفريغ المشتقات، وخفض تعرضها العام إلى 7.9 مليار دولار بحلول 30 سبتمبر، بدلاً من 9.8 مليار دولار في بداية العام.
وكانت “سيتي جروب” أعلنت، قبل الغزو بوقت طويل، عزمها الخروج من الخدمات المصرفية الاستهلاكية في روسيا. وفي أغسطس، قالت الشركة إنها ستنهي تدريجياً تلك العمليات إلى جانب قسمها المصرفي التجاري. وأتبعت فريزر ذلك بإعلان في الشهر الماضي بشأن إنهاء “سيتي جروب” أيضاً عملياتها المؤسسية في روسيا.
والشهر الماضي، قالت فريزر: “لقد قمنا بدعم عملائنا متعددي الجنسيات في روسيا، والآن نبلغهم بأننا سننهي تقريباً جميع الخدمات المصرفية المؤسسية التي نقدمها بحلول نهاية الربع الأول من العام المقبل”، مشيرة إلى أنه “في هذه المرحلة، ستقتصر عملياتنا في روسيا على ما هو ضروري لإنهاء ما تبقى من التزاماتنا القانونية والتنظيمية”.
وعلى هدى “سيتي جروب”، بدأت شركة “جيه بي مورجان” الانسحاب من معظم عملياتها في روسيا بعد الغزو، برغم أن الشركة قالت إنها ستواصل “الأنشطة المحدودة”.
ورفض ممثلو “سيتي جروب” و”جيه بي مورجان” طلب “بلومبرغ” للتعليق، فيما لم يدل المتحدث باسم مكتب شيرمان بأي تعليق لدى الاتصال به.
وقال المتحدث باسم وزارة الخزانة، إن وزارته أصدرت توجيهات إلى قطاع صناعة الصيرفة للتحقق من أن أنشطتها في مجال المساعدات الإنسانية، والطاقة، والزراعة، “تقع في نطاق المسموح به”.
عشرات القواعد
وبحسب “بلومبرغ”، لا يتوقف الأمر عند حدود أن نظام العقوبات الأميركية، يجعل الحياة صعبة على الآلاف من مراقبي الامتثال الذين توظفهم البنوك الآن. فقد وصف أحد كبار المسؤولين التنفيذيين في أحد البنوك كيف يمكن للحكومة الأميركية أن تشجع المقرضين على القيام بأعمال تجارية مع شركة بعينها، برغم أنهم مقيدون بحقيقة أن هذه الشركة خاضعة للعقوبات من قبل الاتحاد الأوربي.
وفي معظم الحالات، تخضع جهود وزارة الخزانة لإشراف نائب وزيرة الخزانة والي أديمو، ومساعدة الوزيرة لشؤون تمويل الإرهاب والجرائم المالية، ليز روزنبرج.
كما وضعت وزارة الخزانة صفحات “الأسئلة الشائعة” لتذكير البنوك بأن بعض الأعمال التجارية المتعلقة بالطاقة، والحبوب، والاتصالات، وخطوط الأعمال الأخرى “معفاة من منظومة العقوبات”. إضافة إلى ذلك، فقد أصدرت الوزارة تراخيص عامة، توضح للبنوك على نحو لا يحتمل اللبس، أن “هذه الأنشطة يمكن أن تستمر”.
رغم ذلك، تلتزم البنوك الحيطة بدرجة كبيرة، حيث تخضع معظم أعمالها التجارية التي تمس حتى العملاء الروس غير الخاضعين للعقوبات لعمليات مراجعة معقدة ومطولة، ما دفع بإدارة بايدن إلى تشجيع المقرضين على مواصلة التعامل مع بعض الشركات الروسية، كجزء من جهود تجنيب الكوكب ولوج نفق المجاعة الجماعية.
وقال السفير جيم أوبراين، رئيس مكتب تنسيق العقوبات، التابع لوزارة الخارجية الأميركية، لـ”بلومبرغ” إن “الأمن الغذائي العالمي يعتمد بالأساس على استمرار هذه المعاملات المصرح بها”، مضيفاً: “نحن نواصل توضيح وطمأنة البنوك والمؤسسات الأخرى المشاركة في التجارة الزراعية، على أنها ليست جزءاً من منظومة العقوبات”.
وفي إحدى الحالات، قال مكتب مراقبة الأصول الأجنبية صراحة للبنوك إنه لم يعاقب شركة “PhosAgro”، وهي أكبر شركة لتصنيع الأسمدة الفوسفاتية في أوروبا. وحث المكتب البنوك، قائلاً: “بوجه عام، فإن العقوبات المفروضة من قبل الولايات المتحدة على روسيا… لا تستهدف تجارة المواد الزراعية أو الطبية”.
ودفع استخدام الولايات المتحدة وحلفائها للنظام المالي كوسيلة لفرض العقوبات، بالبنوك العالمية إلى الخطوط الأمامية لفرض عشرات التدابير ضد روسيا. وأجرت الشركات نقاشات دورية مع إدارة بايدن، منذ ما قبل الغزو الروسي لأوكرانيا في أواخر فبراير الماضي.
وكتب دايمون في كتابه السنوي للمساهمين، في أبريل، أن بنك”جيه بي مورجان” اضطلع بدوره في “تنفيذ سياسات وعقوبات العالم الغربي ضد روسيا”.
وأضاف: “بالطبع، نحن نتبع نص القانون وروح جميع العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، ونعمل جنباً إلى جنب مع الحكومات لتنفيذ السياسات والتوجيهات المعقدة. وكانت إدارة هذا العمل مهمة جسيمة للغاية”.
المعاملات الإنسانية
وتأتي المناورة الأميركية في العقوبات المفروضة على ما كان الاقتصاد الـ11 في العالم، مغايرة لمنظومات العقوبات السابقة، مثل تلك المفروضة على كوريا الشمالية، التي لم يتم دمجها في النظام المالي العالمي، أو إيران حيث تتسم التدابير بمزيد من التضييق.
وتضرب “بلومبرغ” مثالاً بالدور الذي تضطلع به كلّ من روسيا وأوكرانيا في إمدادات الغذاء العالمية، إذ تصدّر الدولتان معاً أكثر من ربع القمح، و70% من زيت عباد الشمس، و14% من الذرة على مستوى العالم. ومنذ الحرب في أوكرانيا، ارتفعت أسعار الغذاء، ما ألقى الكرملين بتبعته على كاهل العقوبات الغربية.
وقالت نويكي إن “الهدف (من المناورة الأميركية) هو ألا يعاني الناس أبداً، وألا يعاني المواطنون الروس العاديون”. وأعربت عن اعتقادها بأن “السياسات الأميركية ستستمر لإيجاد طرق لمواصلة تشجيع المعاملات الإنسانية”، مؤكدة: “إننا بحاجة إلى البنوك للاضطلاع بهذا الدور”.
الشرق