الطفولة والعائلة والقرية
قريتي اسمها الظاهر في عزلة المقاطرة ، وهي قرية جبلية محاطة بمدرجات زراعية ضيقة ووعرة كان مالكوها، وبواسطة نسائهم ، يزرعونها في مواسم الأمطار بحبوب الغَرِب والدُخن والذرة البيضاء والسمسم .. أتذكر من أيام القرية في مطلع الاربعينات فقيه أعمى كان يُحفظنا القرآن وبعض الكلمات .. أما قصة هذا الفقيه، وكان بالمناسبة قريب لجدي، أنه أصيب بانفجار لغم ، من مخلفات الحرب العالمية الثانية ، أثناء عمله في خط القطار الفرنسي، الذي كان يربط ميناء جيبوتي بالعاصمة الاثيوبية أديس ابابا، فعاد إلى القرية يعلِّم الأولاد.
كان إلى جانب هذا الفقيه فقيه آخر بقرية مجاورة نذهب للقراءة لديه، وكانت القراءة عبارة عن حفظ قصار السور وتعلم بعض الكلمات التي تتناسب مع أعمارنا الصغيرة ، وكنا لا ننتظم في الدراسة.. نتعلم قليلاً، ثم نخرج إلى ساحة القرية نلعب ، ونتناول الأكل في الدور القريبة التي يسكنها أقاربنا ( هنا خالة ، وهناك جدة ، وبينهما عمة و هكذا) ، وكنا نلبس في تلك الفترة أثواب من قطعة واحدة ، ونغطي رؤوسنا بكوافي تخيطها الامهات.
من أيام القرية اتذكر جدي حينما كان يعود من جيبوتي بهيلمانه ، وكان يحملني أحياناً على كتفه ويهبط بي إلى الوادي حيث الأراضي الخصبة التي تزرع الخضار مثل الجزر والبطاطا و الطماط البلدي والبسباس، فكانت تمثل لي هذه الرحلة عيد حقيقي . من تلك الأيام البسيطة في القرية ، التي تعود إلى ذاكرتي بعد ثمانية عقود كأطياف جميلة ، لم أزل متعلقاً حتى الآن بأكل فتة وعصيدة الدخن باللبن والسمن التي كانت والدتي تحضرها بطريقة شهية جداً، وهي كانت تقريباً الأكلة الدائمة لكل سكان القرية.
كانت القرية والقرى المجاورة في أغلب أشهر السنة تخلو من رجالها، الذين كانوا يهاجرون إلى عدن ومدن الساحل الأفريقي، يغادرونها أميون ويعملون بمهن بسيطة كعمال بناء وانشاءات وعمال في المقاهي والمطاعم، وقد نشطت في تلك الفترة هجرة الشبان إلى جيبوتي وبعض المستعمرات الايطالية والانجليزية في افريقيا للإلتحاق بصفوف القوات المتقاتلة ( دول التحالف ودول المحور) ، وأن كثير من هؤلاء ، وعلى وجه الخصوص الذين التحقوا بالقوات الديجولية ” القوات الفرنسية” في جيبوتي، قتلوا ، لكن معاشاتهم بقيت ترسل لأسرهم حتى سنوات قليلة.
كان جدي يملك دكاناً بسيطاً في جيبوتي وأخذ معه في تلك الفترة عمي ووالدي للعمل في الدكان، غير أن عمي عاد إلى القرية وتزوج امرأة جميلة واستقر بها حتى تحول إلى عاقل فيها، أما والدي فاراد الالتحاق بالقوات الفرنسية كمقاتل لكنه في أخر لحظة عدل عن قراره ، وبدأ يعمل في التجارة، فقد كان ذو حس تجاري حاد.
ويقول والدي عن تلك الفترة أن دكان والده كان ملتقي لآهل قريتنا والقرى المجاورة ، وخصوصاً من العمال الذين كانوا يعملون في خط السكك الحديد و في الميناء وكذا العائدين من الجبهات المشتعلة وراء البحار ، وكانوا يتجمعون ويقسمون العمل بينهم… منهم من يعجن ومنهم من يطبخ وثالث يعمل الخبز الطاوة ورابع يعصد ، وكانت الحياة حميمية تخفف عنا نار الغربة وقلق الحرب ؛ وكان لانعدام المواد بسبب الحرب وتقطع الأوصال والغلاء تجعل الناس يتقشفون في تناول الأطعمة .
في تلك الفترة بدأ والدي يعمل لحسابه الخاص بعيداً عن والده ، فكان يشتري في بداية الأمر كميات بسيطة من الأقمشة التي تستخدم في خياطة الدروع والمقارم النسائية في عدن ومجاوراتها ، وكان ينقلها إلى منطقة الشيخ سعيد بالقرب من باب المندب، ومن هناك ينقلها إلى منطقة دار سعد ( اخر حدود السلطنة العبدلية) التي كانت أشبه بمنطقة حرة ، ويبيعها لوسطاء يتفننون في تهريبها إلى داخل المستعمرة الانجليزية.
بقي والدي لفترة يعمل بهذه المهنة، وبعدها قرر فتح محلاً خاصاً به في ممر العطارين بالقرب من (مسجد أبان) التاريخي في كريتر ، وبعدها بعامين عاد إلى القرية وأخذني معه إلى عدن لأول مرة.
من تلك الرحلة لم أزل أتذكر أني أن أبي استأجر حماراً قوياً وأركبني خلفه ، وبعد أقل من مرحلة سفر وقع على الأرض، وبدأ ينهق وتقليب جسمه القوي في التراب ولم نستطع انهاضه أو تهدئته ، وبعد قليل مرت بجوارنا امرأة كبيرة ونحن في حيرة من أمرنا، فقالت لأبي ضع في أنفه قليل من التراب الناعم ، وبالفعل بعد أن قام بهذه العملية هدأ الحمار ونهض ، وركبنا من جديد على ظهره ، وسلك طريقه المعتادة وبدون دليل أو موجه إلى معبق حيث بتنا هناك في مقهاية ، وفي الصباح انطلقنا بحمار ثانٍ من معبق في مرحلة ثانية إلى الفرشة، ومن هناك انطلقنا إلى لحج في بابور أنتر ناش إلى لحج ، ومنها إلى دار سعد فكريتر.
دهشة الانتقال من عالم إلى عالم مختلف تمثلت في مظاهر المدينة والحياة فيها .. مبانيها ، أطعمتها، نساؤها ، روائحها ، العلاقات الاجتماعية فيها .
في تلك الفترة بدأت أتعلم القراءة والكتابة في معلامة ملحقة بالمسجد على يد الفقيه عبد الباري الفتيح والد الشاعر الكبير محمد الفتيح، وبعد المعلامة درس في مسجد أبان الذي كان يتولى الخطابة وإمامة الصلاة فيه والوعظ عبد القادر أحمد علوان آخر رئيس للاتحاد اليمني ، ومحمد عوض باوزير ، والشيخ مطهر الغرباني
وحينما عدت إلى القرية في اول زيارة لي إلى القرية، كنت قد صرت إنساناً جديداً في ملبسي، وشكلي، ورؤيتي للحياة.
أتذكر حينما عدت من نفس الطريق التي جئناها بحمار، كنت أركب جملاً بهودج يسمونه عندنا حنية، وإن أول إمرأة في قريتنا رأتني بمظهري الجديد وبنيتي السمينة اعطتني كسرة من صبًّار أخضر ” صَبِر” لوضعها في جيب شميزي حتى أكسر شرور العين.