الكاتب والشاعر محمد عبد الوهاب الشيباني يواصل الكتابة عن الهامة المصرفية اليمنية حسين السفاري (4)

وجدت نفسي أتصل به في السابعة من صباح الجمعة ، فقال لي أنه سيمر لي لنتجول قليلاَ في المدينة، انتظرته في مقهى عبد الجبار الصلوي في الدائري الغربي ، وحينما وصل قلت إن هذا المقهى صار مع الوقت جزءاً من ذاكرة التسعينيين اليمنيين من الأدباء والصحفيين والفنانين ، ولسنوات طويلة كنا نأتي إليه مساء، وتتحول طاولاته الخشبية المتهالكة وكراسيه العتيقة إلى منتدى حقيقي يصطخب بنقاشات الرواد في السياسة والأدب والفن.. رويداً رويداً بدأ رواد المقهى بهجره إما بالسفر أو بالانتقال إلى أحياء بعيدة ، غير أن هذا المقهى بقى في ذاكرة من زاره مكاناً يشير للحياة المختلفة في صنعاء ما قبل الحرب ، وإن عبد الجبار الصلوي وولده رفعي شخصان لا يمحيان من ذاكرة الأصدقاء ؛ فقد كان صديقي المرحوم فارس غانم وهو في جنوب أفريقيا كثيراً ما يسأل عن المقهي ورواده بكل شجن حتى قبل مماته بوقت قصير.
بدأنا( حسين السفاري وأنا) الجولة من الدائري إلى الصافية والعودة إلى جولة الشراعي (جسر الصداقة) وهناك أشار إلى البنك المركزي وقال إن أرضية البنك كانت جزء من مقبرة خزيمة التاريخية ، التي كانت تصل إلى مدرسة عبد الناصر ومحيطها وصولاً مكتب الرئاسة وفندق سبأ ، وحين تملكها البنك المركزي (لجنة النقد) في زمن الراحلين عبد الغني على وأحمد عبده سعيد تشارك في مقاولة المبني في بداية الأمر رجل الأعمال (محمد سيف ثابت) والمهندس (محمد قاسم عون) مصمم المبنى الجميل ، غير أن صعوبة تحليل تربة الأرض ومعوقات أخرى جعلت محمد سيف ثابت ينسحب لصالح شركات أجنبية قامت بتنفيذ المبنى بتصميم المهندس عون.
أمام فندق الزهرة ومعرض عبير الزهور وقفنا ، ثم التفت موجهاً لي سؤالاً مباغتاً : هل سمعت بالشاعر الشعبي أبو عادل العولقي فقزت مباشرة إلى بالي قصيدته الجمهورية ذائعة الصيت التي تبدأ بقوله :
(يا الله يامن لك السلطان والقدرة/عبدك ترجّاك تجري اللطف بالمقدورْ/ بحق طه ومن شدّيت به أزره/ لا هنت منصب ولا شفيت به منذورْ/ وكل من قل لا مسته عثره/ يا الله تقيمه، وردّه خاطره مجبورْ/ لا تترك النسرْ مقصوص الجناح حسره/ في مخدعه والفضاء يلعب به العصفورْ)
وصولاً إلى قوله
(من فندق الشرق لا باب فندق الزهره إن قلت يسعد صباحك قال لك بنجور/ ليته تحلبط ولا تمت له السفره/ كنه قفا الثور يزرع حقله المهجور/ والليل عود وليل الليل والغدره/ وإن المريض انتكس وتضرر المضرور/ واتسلل الثعل فيده راية الثورة )
أشار بعدها غرباً الى مبني مقابل قال هناك كان فندق الشرق ، وكانت نخبة صنعاء تجدها كلها في هذا المربع في العصاري ، وعلي عبد المغني كشارع حديث كان رئة صنعاء.
أمام مدخل سينما بلقيس وقفنا فقال لي هل تعرف أن لي ضلعاً كبيراً في بناء السينما وتشغيلها أيضاً؟ فقلت له اشرح لي بالتفصيل :
قال بعيد عودتي من المانيا مع الوالد إلى عدن ، صعدت إلى صنعاء و بقيت قليلاً بها مديراً للمراسم في الخارجية ، ثم انتقلت للعمل مديراً للشركة اليمنية للتجارة التي أسسها بصنعاء محمد سيف ثابت وعبدالله شمسان الدالي ، وكانت تتبعها المؤسسة اليمنية للهندسة والمقاولات ، التي عمل بها لفترة وجيزة الدكتور والشاعر سعيد الشيباني بعد عودته من القاهرة في 64، وكان مقرها في بداية الأمر في منزل النعمان بشارع جمال؛ وهذه المؤسسة هي التي أنشأت سينما بلقيس ، وكانت الادارة هي التي تتولى توريد الأفلام لها من القاهرة، ولعب الشيخ والمناضل جازم الحروي دوراً مهماً في دعم هذا الصرح الثقافي ،الذي أسس لخطوات الحداثة في المدينة المغلقة ، حين كان همزة الوصل بين المؤسسة والمؤسسات الثقافية المصرية . ولاحقاً كان لعبد الكافي سفيان بعد عودته من جيبوتي دوراً مهماً في تزويد سينما بلقيس وبقية دور السينما في صنعاء وتعز والحديدة وعدن وبالأفلام المصرية والشرقية بعد ذلك ، وأنه قام في تلك الفترة بإنشاء سينما مماثلة في مدينة التربة.
كان أيضاً (المستودع الشرقي) في قلب شارع علي عبد المغني يمتلكه عبدالله شمسان الدالي ، وكانت المؤسسة تزوده بمسجلات ألمانية حديثة اسمها غرونديج (Grundig) ، وكانت هذه الماركة مرغوبة عند الضباط والخبراء المصريين والروس .
وكانت الشركة أيضاً تقوم بتزويد مستودع ( الشرق الأوسط) لصاحبه أحمد عبد الله مقبل القدسي (الدالي) بالمسجلات والكاميرات من ذات الماركة ، وهو ذات الشخص الذي أسس وشغَّل حديقة التحرير، التي كانت عنواناً لصنعاء الجديدة هي الأخرى ، و ملتقى النخبة من الطلاب المسافرين و العائدين والموظفين ، وكان رجلٌ شهم يساعد الطلاب ، ويعمل على إعاشتهم بشتى الطرق والوسائل، غير أن تنازعاته الطويلة مع البلدية أدت إلى تدمير المقهى بحجة التحسين ، ووعدت بتعويض لكن بلا فائد.
في الشارع التالي لمدخل السينما وقف وأشار يميناً قال لي تعرف هذا المكان ؟ فقلت له نعم هناك بيوت زبارة على أطراف بستان السلطان ، حيث كانت عيادة صديقي النبيل المثقف الكبير الدكتور أحمد الحكيمي استشاري أمراض الأنف والأذن والحنجرة ، واضطر لإخلائها وبيع أجهزته بتراب الفلوس ، لأن المالكين سيبنون مكانه برجاً تجارياً؛ قال نعم هناك استأجرت مكاناً للإقامة في وجودي المبكِّر بصنعاء، وكان يطلق عليه مفرج زبارة ، وقد اتخذت القوات المصرية من المكان بعيد الثورة بقليل مقراً للشرطة العسكرية ، ثم أخلته بعد ذلك.
أشار إلى لافتة (مطعم فلسطين) وقال كان هذا المطعم بموقعه الحالي إلى جانب (مطعم ديلوكس) الذي كان في مدخل شارع 26 سبتمبر مقابل مبنى البنك اليمني للإنشاء والتعمير من أشهر مطاعم صنعاء ، ويقومان بتقديم الوجبات الشرقية والغربية بشكل فندقي راقٍ، حين كانت صنعاء الجديدة محصورة في هذا الشارع
التفت يساراً وأشار إلى مبنى( فندق المخا ) وقال هذا الفندق كان عنواناً بارزاً لصنعاء الجديدة أيضاً، وقال أسسه المرحوم (علي احمد شعلان) ، والذي كان في مدينة عدن واحد من اهم تجار العطور وأدوات التجميل، يمتلك محلاً أنيقاً في عمارة السقاف في قلب كريتر ، وهو شقيق المرحوم (محمد أحمد شعلان) وزير البلديات وهو الذي أشرف على تخطيط شارع علي عبده المغني؛ ثم أشار إلى عمارة مكونة من أربعة أدوار بمقابل مبنى الفندق وقال هذه عمارة علي ناصر العجي التي سكن (عبد العزيز عبد الغني) إحدى شققها في أول حياته المهنية بصنعاء، وأنها تعرضت في حصار صنعاء لقذيفة في إحدى غرفها الخارجية .
أمام عمارة عتيقة بيضاء، تقبع بمواجهة حديقة التحرير من جهة الشرق، مكونة من خمسة أدوار، وبنيت بطريقة حديثة أقرب لعمارات القاهرة توقفنا، وقال هذه العمارة تشارك ببنائها بعض مقاولي الحجرية الذين صعدوا إلى صنعاء بعد الثورة مباشرة ومنهم سلام علي ثابت وشمسان عون ومحمد عثمان، وكانت وقتها تحفة معمارية مميزة؛ ثم اشار الى عمارة جوارها وقال هذه عمارة (أحمد حسين غرامة )، وأنشأها بمواصفات حديثة بعد عودته من الصومال.
وفي مدخل شارع الدفعي ( شارع الذهب) أشار إلى عمارة بنيت بطراز حديث ؛صارت تعرف بفندق النصر ، وكان يسكنه الكثير من الطلاب غير المستقرين ، غير أنه صار مميزاً عند الكثيرين منذ قطنه ولسنوات طويلة المثقف اليساري الفوضوي (عمر غزال) ، وقال أن بجوار هذا الفندق كان يوجد أهم المطاعم الشعبية في الشارع وهو مطعم (لاهب) ، والذي كان يقدم وجبة السلتة واللحم البقري بالطريقة الصنعانية المعتقة، وكانت ترتص أمامه العديد من بائعات الملوج اللواتي يجيئن من حواري بستان السلطان والطبري ، فكان الطلاب والعمال والموظفون يجيئون من محيط التحرير وشارع علي عبده المغني وشارع جمال ومن سوق باب السبح لتناول وجبتهم المحببة في زحام عجيب ، وكنا نشاهد الأغلبية يدخلون المطعم بقاتهم الصوتي الرخيص وهم مبتهجون.
كانت الحياة جميلة وبسيطة وكل الناس مكسوون بالأمل
(يتبع)

اخبار ذات صلة