تأثير كورونا المستجد على القطاع المصرفي

أظهرت الأزمة الصحية العالمية الناجمة عن انتشار وباء كورونا المستجد، في ما يخص قطاع المصارف عبر العالم، أن فترة الحجر الإلزامي التي فرضتها غالبية الدول حول العالم، شكّلت ضغوطاً متزايدة من المخاطر على نشاط البنوك، ولا سيما البنوك الناشطة في القروض للشركات بعدما اضطر الكثير من المؤسسات حول العالم للتوقف عن النشاط الإنتاجي أو الصناعي، وبالتالي كشفت الأزمة أن القروض المصرفية خلال الأزمة الصحية هذه لم تكن متساوية بين قطاع وآخر.
إن ما يجب توضيحه في البداية، أنه خلافاً للأزمات الاقتصادية أو المالية المتعارف عليها والتي تنتج عن أداء الاقتصاد أو المصارف أو أسواق المال في بلدٍ ما، هذه المرة إن لجهة القطاع الاقتصادي أو القطاع المصرفي فكلاهما يتلقّى لكمات الكورونا لكن لكمات متفاوتة القوة ومتفاوتة الضغوط. ورأينا كيف تداعى القطاع الاقتصادي حول العالم نتيجة الأزمة الصحية وتوقفت أنشطة مختلفة عن العمل، ما أدّى إلى حدوث إنكماش في اقتصادات العديد من الدول ولا سيما الكبرى منها. لكن القطاع المصرفي ونتيجة هذه الأزمة الناجمة عن الوباء لم يتضرر بشكل مباشر وبعيد كل البعد عن أزمة العام 2008 العالمية، حيث كانت البنوك حينها سبب فقاعة سوق العقارات الأميركية. فالبنوك اليوم تلعب دور الإطفائي الساعي لإنقاذ ما تيسّر من قطاعات، دور يهدف لإمتصاص الصدمة ومواصلة تمويل حركة الاستهلاك وتستفيد هذه البنوك من سيولة تطرحها البنوك المركزية حول العالم لهذا الغرض.
والعامل الثاني الذي يقوي أرضية البنوك الكبرى حول العالم لمواجهة تداعيات كورونا، هو أن المصارف ركّزت خلال السنوات العشر الأخيرة بعد فقاعة الرهن العقاري الأميركي والذي تحوّل أزمة عالمية، على تكديس رؤوس الأموال ولديها منها ما يكفي لكن بنسب متفاوتة بين بلدٍ وآخر.
وفي هذا الإطار يرى بنك التسويات الدولية، وهو بمثابة البنك المركزي للبنوك المركزية حول العالم، أن ما بين عامي 2011 و2019 استطاع أكثر من 100 مصرف حول العالم زيادة حجم الأموال الخاصة لديها بنسبة 98 في المئة، أي ما يعادل تقريباً 2000 مليار يورو، وهنا بالذات يرى المحلّلون أن البنوك التي تأفّفت من شدة القيود التي فرضتها معايير بازل الدولية ولا سيما الأخيرة الهادفة إلى تعزيز صلابة رأس المال، ها هي اليوم بفضل بازل ومقرراته تتمتع بحجم كبير من رؤوس الأموال يساعدها على تخطي الأزمة الصحية العالمية ومواجهة ظروف فرضت نفسها على كل القطاعات الحياتية. لكن يبقى أن مسألة الربحية في سياسة المصارف أو العائد على النشاط المصرفي في أوروبا ضعيفة مقارنة مع الولايات المتحدة مثلاً وهذا يشكل عائقاً للبنوك الأوروبية.
في أوروبا ولتقييم مستوى كلفة المخاطر يقوم كل مصرف من المصارف الكبرى الشهيرة باختيار سيناريو مع معطيات مختلفة تتناسب مع سياسته البنكية مبنية على عدة عوامل منها تقديرات الناتج المصرفي الصافي وقدرته على استيعاب الصدمة، وكل الاحتمالات أخذت في الاعتبار نوعاً معيناً من الشركات التي تحتاج إلى تمويل خلال أزمة كورونا وبالأخص الشركات الصغرى والمتوسطة الحجم، وبعد ظهور فيروس كورونا المستجد بأسابيع قليلة قامت عدة مصارف أوروبية شهيرة بالإعلان عن تخصيصها حجم من الأموال لمواجهة الوباء، وقال بنك باركليز البريطاني إنه خصص لمواجهة الأزمة الصحية حوالي مليارين ومئة مليون جنيه (2.4 مليار يورو)، ونذكر من هذه المصارف أيضاً البنك الإسباني سانتاندر الذي كشف عن وضع 1.6 مليار يورو للمهمة ذاتها، وسوسيتيه جنرال الذي خصص 3.5 مليار يورو كسيناريو لمواجهة الوباء، وقد يصل الحجم إلى 5 مليارات في حال طالت الأزمة.
وهذه الأموال والسيناريوهات المرافقة لها جاءت لتحمل الصدمة في حال اشتدت المخاطر على الشركات وتصبح بالتالي غير قادرة على سداد قروض مدينة بها لهذه المصارف مسبقاً.
كما لاحظنا، فإن البنوك الأوروبية تضع جانباً مخزوناً من الأموال لمواجهة أي إفلاس محتمل لشركة استفادت من قروضها، لكن بمعطيات وسيناريوهات مختلفة من ركود اقتصادي وخسارة محتملة يتحملها زبائن المصارف من مؤسسات وأفراد نتيجة الأزمة الصحية العالمية التي فرضت زيادة في حجم تكلفة المخاطر التي تؤثر على جداول البنوك لكن بنسبة أقل في مجال القروض العقارية، التي تنشط فيها بنوك مثل أنتيسا (Intesa) الإيطالي أو كريدي أغريكول الفرنسي.
في المقابل البنوك الأوروبية لا تتساوى كلها في تكلفة المخاطر وأنواعها، فبنك سوسيتيه جنرال الفرنسي و unicredit الإيطالي معرضان على تخلف الشركات في قطاعات ليس بالضرورة عقارية، وبالتالي فإن فترة الحجر الإلزامي التي فرضتها السلطات والتباطؤ الاقتصادي الناجم عن ذلك أدَّيا إلى ارتفاع في تكلفة المخاطر، الأمر الذي يفسر كبر الحجم الذي خصصه سوسيتيه جنرال كمخزون في حال تخلَّفت الشركات عن سداد قروضها، فهذا البنك الفرنسي احتسب أكثر من 800 مليون يورو لتغطية المخاطر، والإيطالي unicerdit خصص حوالي مليار يورو للغرض ذاته.
وبالنسبة لبنوك التجزئة فإن هذه الأخيرة لم تقم بتجميع مخزون عالٍ، وبالتالي سجلت نتائج أفضل من غيرها.
المفوضية الأوروبية، وبعدما قامت عدة دول في الاتحاد الأوروبي بتخفيف إجراءات الحجر، كشفت نهاية نيسان/أبريل الماضي عن حزمة خاصة للبنوك الهدف منها تسهيل القروض للأفراد والشركات والاستفادة من التسهيلات التي تؤمنها القواعد المصرفية الأوروبية، وكذلك الأمر تبسيط شروط الحصول على القروض من خلال تبسيط التشريعات المتعلقة بذلك بحيث يستطيع كل من الأفراد والشركات الحصول على التمويل الذي هم بحاجة إليه.
التسهيلات التي كشفت عنها المفوضية الأوروبية في هذا الإطار مؤقتة واستثنائية ومن غير المعروف كم من الوقت يستمر العمل بها وستشكل نقطة توقف في مسيرة مستمرة منذ أزمة العام 2008 استطاعت خلالها المصارف الأوروبية تجميع نفسها من جديد وتقوية رؤوس أموالها.
البنوك الأميركية تواجه أزمة كورونا الصحية مع أرضية أقوى من تلك الأوروبية لأنها وقبل نشوب تداعيات الأزمة الصحية على الاقتصاد الأميركي، تتمتع بمسائل إيجابية غير متوفرة لدى بنوك أوروبا، نذكر منها أن جداولها المالية ذات ربحية عالية واستفادت من تقلبات السوق المالية من النصف الثاني من آذار/مارس 2020، أي بداية اشتعال كورونا في أميركا، كما تتمتع مصارف الولايات المتحدة بهوامش تمويل وربح أفضل من التي تحققها بنوك الاتحاد الأوروبي في الإجمال، حيث لا زالت بنوك الاتحاد الأوروبي تحت ضغط فوائد مصرفية متدنية وما دون الصفر أحياناً، في حين أن مصارف الولايات المتحدة شهدت ارتفاعاً بمعدلات الفائدة العام الماضي قبل أن تعود للهبوط تحت ضغط من الرئيس دونالد ترامب وفيروس كورونا المستجد.
أضف إلى ذلك، فإن البنوك الأميركية قامت بتحقيق مخزون مالي عالٍ منذ الفصل الأول من العام 2020، أي قبل بروز الوباء العالمي في الولايات المتحدة في ظل معدلات بطالة مرتفعة وأسعار نفط متدنية وتدنٍ في العجلة الاقتصادية.
فالبنوك الأميركية قياساً بزميلاتها الأوروبية تتمتع أيضاً بتشريعات أفضل من تلك السائدة في الاتحاد الأوروبي عموماً وتستطيع تحقيق ربحية بشكل أسهل ومع ذلك بيَّنت التقارير الداخلية أن أرباح البنوك مثل مورغان ستانلي وبنك أوف أميركا وسيتي غروب وغولدمان ساكس وغيرها من البنوك الشهيرة تبخرت، وفي مثل هكذا ظروف تتراجع الزبائن عن طلب القروض، وكذلك الأمر تتردد البنوك في الإقراض والجميع يريد الابتعاد عن المخاطر.
المشهد المصرفي في الصين حيث نشأ الوباء في ووهان قبل أن يصبح عالمياً، فإن البنوك الصينية الكبرى بيَّنت أنها قادرة على استيعاب الصدمة التي شكَّلها فيروس كورونا للقطاعات الاقتصادية، علماً أن تكلفة المخاطر شهدت ارتفاعاً في قيمتها رغم المساعدة الكبيرة التي كشفت عنها السلطات الحكومية للشركات المحلية التي توقفت عن النشاط بسبب الظروف الصحية.
وللإشارة فإن أغلب البنوك الصينية الكبرى مملوكة للدولة والبنوك الأخرى الخاصة وبمختلف أحجامها تتمتع بدعم حكومي في حال تعرضت لصعوبات في الأداء أو لمشاكل تهدد بقائها، فهذه هي نقطة قوة البنوك الصينية قياساً لبنوك الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.
رغم ذلك، فإن بنوكاً متوسطة وصغيرة الحجم تعاني من إشكالية في أصولها وتجد صعوبة في تعاطيها مع الخارج لأنها غير موصولة بالبيئة المصرفية والمالية الدولية، نقطة الضعف هذه بالبيئة المصرفية لهذه الفئة من بنوك الصين ربما تشكل عاملاً إيجابياً على المستوى الخارجي، حيث إنها إذا تعرضت لأزمات فإن ارتدادها على الخارج سيكون ضئيلاً للغاية.
ختاماً، من الواضح ومما لا شك فيه أن البنوك الكبرى حول العالم أميركية – أوروبية – صينية – روسية – يابانية – عربية وغيرها، بيّنت وبنسب متفاوتة، عن قدرة معينة في مواكبة الشركات لمواجهة كارثة غير مسبوقة حلّت على النشاط الإنتاجي والصناعي بنية تفادي إقفال شركات وبروز مشاريع تسريح ملايين الموظفين حول العالم، ولكن يجب الاعتراف أن استمرار البنوك في هذا الدعم يتطلب من جانب الشركات القيام بمبادرة أمل تعيد ضخ الروح من جديد في البنية الاقتصادية كي تكون قادرة بالتالي على سداد هذا الدعم الخاص والقروض السابقة للمصارف.
لكن أغلب التوقعات تشير إلى أن إنفجار فقاعة إفلاس لبعض الشركات وتسريح للموظفين آت لا محالة ولو تأخر وأن حجم التخلُّف عن سداد القروض للبنوك سيكون موجعاً.
مازن حمود
محلل اقتصادي ومالي / باريس
مجلة المصارف العربية- العدد 474 مايو 2020

اخبار ذات صلة