ان تكون ناجحا ومشهورا فهذا أمر رائع دون شك لكن أن تكون شخص عادي ضمن منظومة الحياة الطبيعية فهو أكثر روعة.. واليوم وعلى أرض الواقع أصبح أن يقبل الإنسان كونه فردًا عاديًا هو أمر غاية في الصعوبة فنحن نعيش في مجتمع يلهث وراء الشهرة والمال.. ونحن محاطون بموجة لا تنتهي من الرسائل التى تحفزنا دائمًا على إن نكون غير عاديين بل مختلفين ونجد كتب وكتابات لا نهائية تضع لك روشتة نجاح ستحولك الى رجل المستحيل.. وأصبح هناك وظيفة تحمل اسم “مدرب تنمية بشرية” وهي وظيفة غير محددة المهام وغير واضحة تماما.. ومن يمارس تلك الوظيفة من المفترض أنه سيجعل منك شخص قادر على الإقناع وستصبح ساحر يمكن أن تبيع أي سلعة بمجرد التحدث، أو أن تقنع من أمامك أن يقوم بتوظيفك.. وطبعًا مع هذا المدرب ستصبح قادرًا على ان تتحدث أفضل وتستمع أكثر.. إن بائعو الوهم من مدربي التنمية البشرية يحطمون البعض بتعزيز فكرة أن الثقة تكفي لتحقيق هدفك وأن النجاح سهل مع تعلم لغة الجسد الصحيحة.. وان “تمارين تقوية الفص الأيسر من المخ” ستحسن علاقاتك مع الآخرين.. في مقال بعنوان “لماذا فقدت إيماني بتوني روبينز؟”، يسرد الكاتب “جاسون كونيل” تجربته مع التنمية البشرية، والتي مرّ عليها من خلال كتاب “القوة غير المحدودة” (Unlimited Power) لتوني روبينز وهو من أشهر مدربي التنمية البشرية حول العالم، فيقول إن التنمية البشرية تمتلئ بعدد من الخدع النفسية والعاطفية الحادثة على عدة مستويات، تتباين من المؤهلات المزيفة أحيانًا لدى بعض المدربين، وبين الديباجات المحفوظة والبدهية التي لا تضيف للمرء شيئًا مجهولًا، وتتفق الدراسات النفسية مع فكرة ان الديباجات التي تخبرك أنك قادر على تحقيق أي شيء بمجرد رغبتك فيه، هكذا دونما تحليل حقيقي لقدراتك ومعارفك ومدى وملاءمتها لذلك، وإيمانك بمجموعة من الأهداف الإيجابية الوهمية، يمكنها أن تقوض أو تضعف الحافز الحقيقي على النجاح، وهو ما تتفق معه دراسة أُجريت على عدد من الخريجين في كندا وأثبتت أن فرصة الحصول على عمل كانت من نصيب الذين تعاملوا بواقعية بدلا ممن سبحت بهم الأحلام.
وهو ما يرجعه علماء النفس، إلى الخمول الذي تصنعه الأحلام قبل السعي لها، فـ”النجاح الموعود جعلهم يستمتعون بالمستقبل المنتظر، قبل أن يصبح حقيقة، وأن يحصلوا على رضىً وهمي وشبع نفسي، منعهم من التقدم بخطوات كافية لتحقيق هذا المستقبل”، فالأفكار السلبية -حسب عالم النفس “جوزف فورجاس”- ليست شيئًا سيئًا على الدوام؛ لأنها تعزز نمط التفكير وتجعل الشخص أكثر انتباهًا وقابليةً للتكيف مع واقعه”.
وربما يكون الأشخاص القادرين على إعادة حساباتهم والتفكير في واقعهم، أكثر قدرة على التمسك بما يقدرون فعليًا عليه ويتخلون عن الأهداف التي لا يمكن الوصول إليها، ونرى هذا في تجربة نجاح “ستيف جوبز” الذي صعد بشركة “أبل” (Apple) إلى المقدمة بتخلصه من 340 منتجًا من أصل 350، مرتكزًا على 10 باقيات أولاها اهتمامه؛ لترتقي شركته القيمة الأعلى في عالم التقنية. وعلى الرغم من الشهرة التي يتمتعون بها فإن أكثر من 90% من اللاعبين المحترفين والأكثر كفاءة لا تعميهم الثقة بأنفسهم عن مواصلة التدرب الشاق، فالثقة بالنفس -وحدها- لا تُفعِّل قدرات العقل الكامنة كما يدعي بعض المدربين، أما فكرة ضع عينيك على الأهداف الكبيرة البعيدة فإنها قد تبدو حمقاء بعض الشئ وقد تقضي تمامًا على أحلامك؛ إذ كيف يتسنى النجاح لرجل في تسلق الجبل وهو دائم النظر لقمته، ومهملًا موضع قدميه؟ فالثقة بالنفس أمر جيد، لكنها بمفردها لا تصنع شيئًا بمجرّد إقناع النفس بالقدرة عليه، فالتدريب والتعلم والممارسات التدريبية على الأمر هي المفاتيح الحقيقية لتحقيق الأهداف الخاصة به. انها جريمة نفسية متكاملة الأركان ان تقنع أحدهم بسهولة النجاح بمجرد التركيز على الأهداف فالنجاح صعب جدا، ويحتاج الى الاصرار والعمل الجاد والشاق، والحكمة في اتخاذ القرار اهم من الثقة العمياء، والخطاء أفضل معلم واذا كان الهدف الذي تحاول الوصول إليه مستحيل فحاول في طريق جديد حاملًا معك خبراتك والمهارات التي كونتها من عملك السابق..
لكن، وبعد كل هذا يبقى أمر التنمية البشرية سجالًا دائرًا بين الفريقين: المؤيد لها والمعارض على حد سواء،؛ فالبعض يرى أنه لا يمكن تعميم الانطباع عن المدربين ككل انهم بلا فائدة بل العديد منهم يقوم بتدريب المبتدئين على العديد من المهارات الضرورية والمهمة لدخول سوق العمل.
في حين يرى الفريق المعارض أنها مهنة من لا مهنة له وبيع للوهم ، خاصة “البرمجة اللغوية العصبية”، التي تتفرع عنها، ويراها الكاتب “أحمد خالد توفيق” بوصفها “خليطًا من العلوم المختلفة التي تقوم على التخيل والإيحاء والمنطق، تعتبر الإنسان في كثيرٍ من الحالات مجرد آلةٍ صماء يمكن إعادة برمجتها حسب الطلب، ومن ثم تشغيلها وفقاً لتلك البرمجة؛ ولذلك فإن كثيرًا من المهتمين بها يعدونها برامج لهندسة النفس الإنسانية
ختامًا هل يمكن اعتبار التنمية البشرية شيئًا جديًا ذا قيمة، رغم سيل الانتقادات؟ أم إنها بيع للهواء خلف البدل الأنيقة والشهادات التي يصعب تصديقها؟ وهل قبولها أو رفضها يتحددان وفقًا لمعايير العلوم ومدى تطابق التنمية البشرية مع هذه المعايير؟ أم إن الرافضين يضعون في اعتبارهم أثر هذه الظاهرة على الإنسانية من نزع للتمايز الفردي بين الأشخاص؟ هل تحفيز الأفراد على أن يكونوا متفوقين هو محاولة لطمس هويتهم أم ضرورة لدفعهم نحو النجاح؟